۶۴۳مشاهدات
تحليل ورأي؛

الانتخابات العراقية.. النتيجة: عراق آخر

رمز الخبر: ۵۸۰۳۴
تأريخ النشر: 04 October 2021

موقع تابناك الإخباري_حتما، الانتخابات في موعدها. لا تأجيل عن عشرة عشرة ولا عرقلة، ولا تعطيل. كل القوى السياسية تتجه مرغمة إلى اليوم العاشر من شهر التظاهرات والتحولات: تشرين أول 2019. من هناك، قبل سنتين كانت البداية، وما بعد العاشر من تشرين أول القادم عراق آخر.

*تشرين ضد الصين*
حتما، الانتخابات في موعدها. لا تأجيل عن عشرة عشرة ولا عرقلة، ولا تعطيل. كل القوى السياسية تتجه مرغمة إلى اليوم العاشر من شهر التظاهرات والتحولات: تشرين أول 2019. من هناك، قبل سنتين كانت البداية، وما بعد العاشر من تشرين أول القادم عراق آخر.
إنه موعد التغيير الذي فرضته قبل أوانه تظاهرات شيعية صاخبة، ظاهرها ناعم وباطنها باغ وجائر، وساحاتها الغاضبة تديرها ساحة واحدة هدفها منع الحرير الصيني من الوصول إلى بابل وبلاد ما بين النهرين. الصين تتجه غربا والولايات المتحدة تعترض طريقها.
لم تنتظر الولايات المتحدة كثيرا. بعد خمسة أيام من حصول الصين على النفط العراقي مقابل تطوير البنية التحتية، هبت على بغداد تيارات تشرين متأثرة بضغط أميركي مرتفع. لا صوت سوى ضجيج الفوضى. جذبت شعارات التغيير والاصلاح ومحاربة الفساد الشباب إلى ساحات الاعتصام، وغذت جيوش الاعلام الجديد روح الانتقام من الطبقة السياسية.
غضبت الولايات المتحدة على رئيس الحكومة عادل عبد المهدي حين وقع على الاتفاق الصيني. انفجر الغضب الاميركي في شوارع بغداد. ممنوع على العراق التوجه شرقا. أبواب العراق يجب أن تبقى موصدة في وجه الصين.
انطلقت التظاهرات المُنظم ضد الفساد في الأول من تشرين أول من العام 2019 في بغداد، وتمددت بالفوضى إلى المحافظات الجنوبية حيث الخزان البشري لفصائل المقاومة، وأجبرت التظاهرات بعد شهرين من العنف عادل عبد المهدي على الاستقالة، وفرضت مجموعات تشرين شروطها: اسقاط الحكومة والتمرد على المركزية في بغداد. والبديل: النموذج الكردي.
ليس الاتفاق الصيني وحده هو سبب الغضب الاميركي على العراق. قبل ٦ أشهر من زيارته إلى الصين استقبلت طهران عادل عبد المهدي بحفاوة الأصدقاء القدامى. في تلك الزيارة وقعَ عبد المهدي على مجموعة اتفاقيات ذات بُعد استراتيجي، وأهمها اتفاقية عبور إيران إلى سوريا عبر سكة حديد أولها في شلمجة العراقية على الحدود مع إيران وآخرها في مدينة البوكمال السورية. هذه الاتفاقية هي تجسيد حقيقي للانتصار على تنظيم داعش، وكسر للحصار الاميركي المفروض على العراق وسوريا ولبنان.
استخدمت واشنطن أسلحة الحرب الناعمة للانقلاب على سلطة عراقية خرجت عن سيطرتها حين ذهبت بالتعاون مع إيران لقتال تنظيم داعش، وحين وصلت إلى الصين لبناء اقتصادها المنهار. بات العراق بعد الانتصار على داعش أقوى عسكريا وأمنيا. الحشد الشعبي الذي ولد بفتوى من المرجع الأعلى السيد علي السيستاني تحول إلى قوة عسكرية رسمية تمارس عملها الى جانب القوات المسلحة في الدفاع وحفظ الأمن. إن تعافي العراق من التبعية للأميركي دليل على فشل الولايات المتحدة. ليس هينا أن تعترف واشنطن بفشلها، لذلك يجب تحويل العراق الى دولة فاشلة.
كانت الولايات المتحدة قد أعادت تشكيل العراق بعد احتلاله في العام 2003 على المحاصصة الطائفية والتنابذ السياسي والمركزية المناطقية والمحسوبيات والعُمولات والسمسرات وسرقة المال العام. منذ البداية ساعد جيش كبير من المستشارين الأميركيين على فساد السلطة. هذه هي العناوين التي استخدمتها تيارات تشرين في الاطاحة بعادل عبد المهدي. عناوين عادلة زرع بذورها الأولى الاحتلال الأميركي واستثمرها أصحاب النوايا السيئة. عاد الحديث عن تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم بين السنة والشيعة والاكراد. إنه المشروع الأميركي القديم يطلُ بين الحين والآخر برأسه. جديد التقسيم دولة سنية تقوم على توطين فلسطينين وسوريين في الأنبار. انفصال كردستان مع مخزونها النفطي، وحرب أهلية تنهب نفط الجنوب ونخيله. كأنه ممنوع على العراق الاستفادة من نفطه وكبريته ونخيله، واستصلاح الأراضي الزراعية. لو أنه قدر له أن يفعل ذلك، لكانت بغداد، لا القاهرة ولا دبي، هي عاصمة العرب.

*النشوة الاميركية *
سقطت حكومة عبد المهدي، سقطت حكومة الحشد الشعبي، وسقط الاتفاق الصيني، وسقطت خطة الإصلاح الاقتصادي التي انطلقت لإعادة بناء العراق في مرحلة ما بعد تنظيم داعش. شعرت الادارة الاميركية بالنشوة. أخذتها العزة بما ارتكبت، وقررت تسديد ضربة قاتلة ضد أقوى خصومها دون أن تدرك أن الضربة سترتد عليها لاحقاً، وستجبرهما مرغمة على الخروج من العراق والمنطقة.
جذبت شعارات تشرين وجع الناس إليها من أحياء بغداد البائسة. كانت مطالب العمال والطلاب والموظفين المتقاعدين والمفصولين والمرضى والعجزة مُحقة لولا توظيفها في أجندات كبرى. سال الكثير من دماء الفقراء، وتبادل الجميع الاتهامات بالقتل. أسماء بلا وجوه على حسابات مواقع التواصل تقود العراق نحو الحرب الأهلية. المدن التي شكلت كتائب الحشد الشعبي انقلبت عليه في استجابة لتحريض مأجور، ونَصَبت لأفراده الكمائن تغتالهم في الطرقات، وتهاجم مقراتهم. كأنه مشهد من الكوفة ذات يوم من العام 61 للهجرة يستعيد الخطيئة نفسها.
قررت تيارات تشرين ومن صعد بسرعة في مراكبها من شخصيات وأحزاب وقبائل وعشائر وشذاذ وبعثيون ومحبطون وطامحون وطلبة وجَهَلة أن لا مكان للطبقة السياسية الفاسدة في الحكم. كان المطلوب شيطنة السلطة دون استثناء بهدف نزع المكاسب السياسية التي حصل عليها الحشد الشعبي عبر صناديق الاقتراع في صيف 2018.
كان حيدر العبادي يمثل حزب الدعوة حين وصل إلى رئاسة الوزراء كبديل عن نور المالكي الذي اطاح به مقتدى الصدر والسعودية والولايات المتحدة وتوقيعه على تأسيس الحشد الشعبي، وحين قرأ العبادي من الموصل بيان انتصار العراق على داعش، كان يعتقد أن ذلك سيساعده في منافسة الحشد الشعبي الذي قرر المشاركة في الانتخابات العامة. كان العبادي كما السيد مقتدى الصدر يرى في الحشد كتلة شعبية تقوم إيران بتأهيلها لاستلام السلطة. إنه توأم الحرس الثوري الايراني في العراق.
حصد الحشد الشعبي الذي حرر البلاد من الإرهاب الأغلبية البرلمانية لكنه واجه تعقيدات كثيرة في تشكيل حكومة ترأسها بعد توافق صعب عادل عبد المهدي. غَضِبَ العبادي فانسحب من حزب الدعوة وتسبب بشرخ عميق في حزب عريق، بينما حجز السيد مقتدى الصدر لنفسه مكانا في ساحات تشرين الى جانب تيارات مشكوك بوطنيتها.

*شفير الحرب الكبرى*
بينما كانت حكومة عادل عبد المهدي تُصرف الأعمال بصعوبة، وبعد شهر واحد من سقوطها بأدوات الحرب الناعمة، قررت الولايات المتحدة الأميركية منتشية بانجازات مجتمع التظاهرات استخدام أسلحتها الفتاكة لتصفية الحشد الشعبي، وتوجيه ضربة مؤلمة له وللاستراتيجية الايرانية في المنطقة.
في ليلة الجمعة، الثالث من كانون الثاني 2020 وبينما كان أبو مهدي المهندس يستعد للتوجه إلى مطار بغداد لاستقبال اللواء قاسم سليماني، وقعَ على عجل، الرئيس الأميركي دونالد ترامب على عملية اغتيال سهلة دون أن يُدرك أنه وقع على نهاية الوجود الأميركي في العراق والمنطقة.
أعادت عملية اغتيال سليماني والمهندس التوازن إلى المشهد العراقي. انتشت ساحات التظاهر بجريمة القتل، فانكشف مدى تبعيتها للأمريكي. أظهر تشييع المهندس وسليماني والتظاهرات المليونية حجم التأييد لدور الحشد الشعبي في مستقبل العراق. اجتمعت الأغلبية البرلمانية بعد يومين من الاغتيال، وبينما أجساد الشهداء يُطاف بها بمدن العراق وإيران، قرر البرلمان العراقي بأغلبية إنهاء الوجود الأميركي في البلاد، وفي ليلة دفن اللواء سليماني كانت القيادة الإيرانية قد استعدت لحرب شاملة فيما لو ردت الولايات المتحدة الأميركية على صواريخ الحرس الثوري التي دمرت القاعدة العسكرية الأميركية في عين الأسد. كانت ليلة باردة في نواحي العراق حين بلغت سخونة العالم حدّ شفير الحرب الكبرى.
لم ترد واشنطن على الرد الايراني، لكن شبح الحرب كان يُخيفها. قلصت الولايات المتحدة عدد جنودها في قاعدة عين الأسد ونقلتهم الى قواعدها في قطر والكويت، وحظرت على البقية التجول خارج الغرف في الثكنات. تحولت القواعد الأميركية في العراق إلى سجن مرعب للجنود، وانتقل الرهاب من الصواريخ الإيرانية إلى القواعد الأميركية المنتشرة في الخليج والعراق وسوريا وتركيا، وبعد ثمانية أشهر على الرد الصاروخي الايراني نقلت القيادة العسكرية في تجربة حيّة غرفة قيادة القوات الأميركية في المنطقة من قاعدة العديد في قطر إلى مقر القيادة المركزية في ولاية ساوث كارولاينا. بات إنهاء الوجود الأميركي مسألة وقت. حقيقة تجد واشنطن صعوبة في الاعتراف بها.

*من العتمة الى الشمس*
ظلت واشنطن تدفع العراق نحو الفوضى، بينما كانت إيران تعمل على توفير انتقال منظم للسلطة، وتشكيل حكومة توافقية تتمثل فيها جميع مكونات العملية السياسية وتعمل مجتمعة على وقف الانهيار واعادة البناء وإخراج القوات الأميركية من العراق.
ومع ذلك لم يكن الاتفاق بين الكتل البرلمانية على اختيار رئيس وزراء جديد سلسا وسهلا. التظاهرات استمرت، والفوضى كذلك. وكان البرلمان استبق الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة وصوّت على إخراج القوات الأميركية من العراق كثمن على واشنطن أن تدفعه مقابل عملية اغتيال سليماني والمهندس.
أسماء كثيرة تم حرقها قبل أن يتم التوافق على شخصية غامضة خرجت من العتمة الى الشمس. في 7 أيار انتقل مصطفى الكاظمي من رئاسة الاستخبارات إلى رئاسة الوزراء لقيادة مرحلة انتقالية تم تمديدها من حزيران الى ١٠ تشرين أول 2021. ويرغب الكاظمي بعد 17 شهرا أمضاها في هندسة التوازنات الداخلية والخارجية بإعادة تكليفه برئاسة الوزراء معتمدا على الوقوف في الوسط بين جميع القوى المتنافسة على رئاسة الحكومة.
بعد ١٠ أشهر على تشكيل حكومة الكاظمي صوت البرلمان على حل نفسه مثبتا بذلك الانتخابات المبكرة بقانون أقره في شهر تشرين الثاني 2020 قسم الدوائر الانتخابية الى 83 دائرة معتمدا على كوتا النساء ومثاقيل الشخصيات، لا على نفوذ الأحزاب، وأعطى كل 100 ألف ناخب مقعدا برلمانيا واحدا من اصل 329 مقعدا سيتنافس على هذه المقاعد 3 آلاف مرشحا يمثلون 44 تحالفا و267 حزبا ومستقلين.

*الانسحاب والعودة *
بعد قراءة متأنية من مختلف القوى السياسية لناتج قانون الانتخابات الجديد أظهرت القراءات المتعددة تفوق الأحزاب على مجموعة ائتلاف تشرين وعلى المستقلين أيضا. إن التغيير عن طريق الانتخابات الذي كانت تنتظره الولايات المتحدة للامساك بالسلطة بات مشكوكا به. يجب تأجيل موعد الانتخابات لحين نضوج المعارضة المنبثقة من حراك تشرين.
شكل انسحاب السيد مقتدى من الانتخابات والدعوة إلى تأجيلها فرصة لمعارضة تشرين حتى تلتقط المزيد من الأصوات، لكن حسابات السيد مقتدى ترتكز على معادلات خاصة جدا، لذلك تراجع عن قرار الانسحاب، وعاد إلى المنافسة الانتخابية.
بذل وسطاء من القوى السياسية الشيعية جهودا لإقناع السيد مقتدى بالمشاركة في الانتخابات. شارك مصطفى الكاظمي في الوساطة. وكترضية للسيد مقتدى كتب الكاظمي ورقة سياسية من 16 بندا شكلت جسر عبور للسيد مقتدى من المقاطعة إلى المشاركة.
كان من المفترض أن تدور الورقة على الكتل الكبيرة للتوقيع عليها قبل وصولها إلى السيد مقتدى. أجرى هادي العامري رئيس تكتل الفتح تعديلا جوهريا عليها بحذف دمج قوات الحشد الشعبي بالجيش العراقي وأبقاها مؤسسة مستقلة، واستبدل كلمة القوات القتالية الأميركية بكلمة القوات العسكرية الأميركية وذلك للتأكيد على الانسحاب من العراق قبل حلول العام الجديد.
وقع السيد عمار الحكيم موافقا على تعديلات العامري، وأُرسلت الورقة إلى السيد مقتدى مُعدلة، فوافق عليها، وأعلن في اليوم التالي عودته إلى الانتخابات، وهو ما أثار تساؤلات عن ما إذا كانت هذه الورقة الاصلاحية تُمثل التزام القوى السياسية بها في الحكومة القادمة. لكن التساؤلات انتهت بالتوضيحات.
يدرك السيد مقتدى أن الدعوة إلى حل الحشد الشعبي باتت من الماضي، وعليه أن ينظر إلى الحشد بإيجابية وأن لا يعتبره منافسا وجوديا له. إن جميع القوى السياسية على اختلافها في الانتماء الطائفي والمناطقي مقتنعة بأن الحشد هو مؤسسة عسكرية أمنية وطنية أسسها الشعب لتقوم بدورها في الدفاع عن العراق، وغير ذلك هو خداع للعراقيين.
مهما يكن، فإن عودة السيد مقتدى عن المقاطعة، ثبتت موعد الانتخابات، وقطعت الطريق على دُعاة التعطيل والتأجيل، ووجهت أنظار جميع القوى إلى يوم النتائج: هناك ستظهر أحجام القوى على حقيقتها.
منذ إقرار قانون الانتخابات الجديد أظهرت استطلاعات رأي على دفعتين أجرتها مؤسسة إعلامية متخصصة أن نسبة المشاركة الشعبية ارتفعت من 35 بالمئة إلى 55 ٪ قبل شهرين من موعد الانتخابات، ولم تهتز أو تتراجع هذه النسبة مع إعلان السيد مقتدى الصدر انسحابه من العملية الانتخابية ثم عودته، ولم يرفع بيان المرجعية النسبة المشاركة المتوقعة أكثر من 5 بالمئة.
وبحسب الاستطلاع نفسه ارتفعت نسبة التصويت لصالح الأحزاب من 16٪ إلى 50٪، وارتفعت نسبة التصويت للمستقلين من 7٪ إلى 20٪ وبحسب تحليل الاستطلاع فإن الكثير من الشخصيات المستقلة تفتقر الى الاستقلالية، لأن معظم الكتل وظفت مرشحين مستقلين يعملون كرديف لها.
ومع اقتراب موعد الانتخابات بدت تيارات تشرين هي الأقل حضورا على المستوى الشعبي وأفضل التقديرات تعطيها 7٪ من الحضور، وهذه القوى تدرك ذلك، وكانت تضغط للدفع نحو التأجيل أو الإلغاء، ونصف هذه القوى انسحب الى المعارضة والنصف الاخر التحقت بالكتل الانتخابية.

*الانقلاب بالتصويت*
لقد حاولت تيارات تشرين الاستثمار في الدعاية السلبية، واعتقدت أن شيطنة الأحزاب سيجعل منها في نظر الناس مجموعات من الملائكة. بعد اغتيال سليماني والمهندس أدرك العراقيون أن الشيطان الأكبر هي الولايات المتحدة الاميركية.
منذ احتلالها للعراق في نيسان 2003 صنعت الولايات المتحدة أكثر من 3 آلاف منظمة مدنية وقامت بتأهيل كوادرها وتمويل مشاريعها بهدف استثمارها في أي عملية تغيير للسلطة أو للانقلاب على النظام أو في إنتاج شخصيات تتولى مسؤوليات قيادية في الدولة. أسست الولايات المتحدة للفوضى والفساد بدلا من النظام والقانون، زرعت في الدستور فكرة انفصال الاقاليم بدلا من تعميق الوحدة فيما بينها، أضعفت السلطة المركزية لصالح سلطات محلية أضعف من أن تحكم محافظة أو قضاء. بات الخلاف بين القوى السياسية هو القاعدة الناظمة للعلاقات المأزومة. بات العمل السياسي مقترنا بالفساد والعمولات والرشاوى. العراق شبه دولة.
العد التنازلي ليوم الاقتراع بات يُقاس بعدد الأصوات وحبس الأنفاس. إن الانتخابات ستختبر قوة التحالفات السياسية، والنتائج ستكشف أحجام التكتلات، وقانون تفصيل الدوائر الانتخابية ليس سوى أداة مجهولة الصاحب الهدف منها معرفة أثقال الأحزاب والشخصيات والتيارات في إعادة إنتاج العملية السياسية على قياس الصغار وتفتيت الكبار.
كان البعض يرى في الانتخابات فرصة للانقلاب، وما الحريات السياسية إلا وسيلة لانتزاع السلطة. لا شيء أفضل من الانتخابات للتشكيك بالأنظمة. إن عدم القبول بالنتائج أو توزيع الاتهامات بالتزوير قد تكون نقطة البداية لنشر الفوضى. هل يمكن أن يحدث ذلك في اليوم التالي للعاشر من تشرين أول المقبل. إن الذين كتبوا قانون الانتخابات، وقسموا الدوائر ووضعوا قواعد احتساب الحواصل الانتخابية، إنما كانوا يتوقعون حصول انقلاب ناعم. مجلس بلا أغلبية، وحكومة فوق المحاسبة.
وكيفما جاءت نتيجة الانتخابات، فإن الكتل الشيعية الخمسة الكبرى ستشكل الأغلبية البرلمانية، والكتلة السنية ستكون موزعة بين العزم والتقدم والنجيفي، والأكراد محكمون من الثنائي الكردستاني. ورثة الطالباني وأسرة البرازاني، ولن تتمكن تيارات تشرين والكتل الصغيرة والشخصيات المستقلة من ترجيح الكفة لصالحها في البرلمان، لكنها قد تتحول الى بيضة القبان في تنصيب الرئاسات.
وليس بعيدا عن الكتل العشرة المبشرة بالبرلمان، فإن العقد الوطني، برئاسة فالح الفياض، يحاول أن يقدم نفسه كتحالف عابر للاصطفافات الطائفية، لكنه لم يتمكن من النأي عن الاصطفاف السياسي، ولم يسعفه الوقت في تشكيل تكتل على قياس الوطن، فحضرت الدوائر وغابت المحافظات.
وعند الشيعة، يحاول حزب الدعوة أقدم الأحزاب السياسية في العراق تجديد قديمه بوجوه جديدة. نور المالكي ارتفع الى مستوى الزعامة، لكن عودته الى رئاسة الحكومة ليست مضمونة. إن خصوم المالكي الذين منعوه من استخدام الأغلبية البرلمانية في الوصول الى رئاسة الوزراء عام 2014 زادوا واحدا آخر عندما انشق حيدر العبادي من الدعوة بعدما عجز عن إزاحة المالكي من قيادة الحزب. دخل العبادي في انتخابات 2018 معتقدا أن النصر سيكون في تحالفه. اليوم انضم العبادي الى السيد عمار الحكيم في تحالف سياسي أطلق على نفسه اسم قوى الدولة في مواجهة تحالف دولة القانون برئاسة المالكي.
يعتقد السيد عمار الحكيم الذي انشق في صيف 2017 عن المجلس الاسلامي العراقي أنه قادر على القيام بهندسات سياسية تبقيه في منطقة الوسط. ومع أنه اخذ معه من المجلس كل شيء عندما انشق عنه، فإنه وافق على اقتسام تحالف قوى الدولة مع شخصية مثل حيدر العبادي كانت علاقته متوترة دائما مع الحشد الشعبي ومع قيادة حزب الدعوة. وضم السيد عمار اليه شخصيات تقول انها ولدت من رحم ساحات التظاهرات في تشرين على أمل أن يحصد ما تبقى من خريفها. يطمح السيد عمار الحكيم الى تعزيز حضوره في المفاوضات حول تنصيب الرئاسات وأهمها رئاسة الحكومة والحصول على حصة وازنة من الوزراء. الوزن المرجح في الرئاسات والوزراء للمرجعية.

*المرجعية وبلاسخارت*
في 11 تشرين الثاني 2019 زارت جينين هينيس بلاسخارت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق السيد السيستاني. كانت التظاهرات تجاوزت بعنف شهرها الاول، فيما اكملت حكومة عادل عبد المهدي سنة من عمرها. نقلت بلاسخارت كلاما كبيرا عن السيد السيستاني، وقالت إنه لم يعد يثق بالحكومة العاجزة عن تنفيذ الإصلاحات. شككت القوى السياسية في تصريحات المرأة الهولندية. أصدر مكتب السيد السيستاني بيانا أيد فيه مضمون تصريحات بلاسخارت دون أن يُشكك باستنتاجاتها. كان المطلوب من المرجعية حسم الجدل حول تأويل موقف السيد، اختارت المرجعية خطبة الجمعة لسحب الثقة من الحكومة. كتب عادل عبد المهدي مطالعة مطولة وارسلها الى البرلمان مرفقة بكتاب الاستقالة.
حين وصلت بلاسخارت الى بغداد كان عبد المهدي يجلس على كرسي الرئاسة بحكومة منقوصة. استطاعت وزيرة الدفاع الهولندية السابقة تسجيل رقم قياسي في استطلاع خريطة العراق. التقت بجميع القوى السياسية، لكن أهم اجتماعاتها كانت مع السيد السيستاني الأكثر نفوذا واحتراما، الرجل الذي يدير البلاد بقوة الفتاوى وجيش من قلوب المحبين له. كان السيد السيستاني يرى في بعثة الأمم المتحدة منصة لتوزيع رسائل سياسية لقوى الداخل والخارج. إن السيد السيستاني الذي يتجنب كاميرات الصحافة، كان يحرص على توثيق اجتماعه مع بلاسخارت بصور وبيان مفصل. وفي كل مرة كانت تظهر بلاسخارت مصغية إلى السيد السيستاني وهي ترتدي الحجاب والعباية النجفية.
في11 أيلول 2020 وبعد شهر واحد على تكليف مصطفى الكاظمي تشكيل الحكومة أكد السيستاني أمام بلاسخارت على أهمية إجراء انتخابات نيابية مبكرة، ومنذ ذلك البيان التزمت المرجعية الصمت الانتخابي، واختارت المربع الأخير قبل أيام من الاستحقاق لإصدار بيانها المنتظر. مهما قالت المرجعية عن النأي بنفسها، فإن بيانها سيؤثر على خيارات الكتلة الصامتة من الناخبين وينقلها من الموقع الرمادي إلى تقرير مصير الكتلة الأكبر. المرجعية متوجسة دوما من استغلال اسمها للحصول على مكاسب سياسية. المرجعية هي الكتلة الأكبر لأن صوتها يختار رئيس الوزراء.
في انتخابات العام 2018 طلبت المرجعية من الناخبين عدم انتخاب الفاشلين والفاسدين ممن كانوا في السلطة. رأى البعض في ذلك تدخلا منها في الانتخابات. واليوم قبل أيام من الانتخابات نأت المرجعية بنفسها وقالت إنها لا تساند مرشحا أو كتلة. لا تزال المرجعية تعتقد بأن الانتخابات إنما هي المسار السلمي الصحيح للخروج من الانسداد السياسي عبر إبعاد الأيادي الفاسدة عن البرلمان والبرلمان.
كل القوى السياسية في العراق تعرف ما تفعل حتى تصل إلى ما تريد. هناك رغبة مشتركة في التجديد والبناء والتطوير لكن الرغبة الجامحة تقود القوى إلى التمسك بالوجوه القديمة. الكاظمي يريد العودة إلى رئاسة الحكومة كثمن لقيادته المرحلة الانتقالية بميزان يتأرجح باستمرار. الاتحاد الوطني الكردستاني يريد تثبيت برهم صالح في رئاسة الجمهورية لولاية ثانية، ومحمد الحلبوسي يخوض مواجهة صعبة مع خصومه داخل الطائفة السنية ويحاول إقناع الخارج بأنه المرجعية السنية في العراق.
تملك القوى السياسية الكثير من الوعود، لكنها أضاعت الأغلبية. تصدعت جسور الثقة بين المسؤولين والناخبين. باتت المناصب والوظائف والخدمات تُباع وتُشترى. سوء الإدارة وسم الطبقة السياسية بالسيئات، وبدد حسنات المخلصين. لم يعد سهلا خداع الناخب بمشاريع ارتجالية. إن الذين حرروا العراق من الإرهاب وبذلوا أرواحهم رخيصة لم تغويهم السلطة الثرية كما حدث من قبل بعد سقوط نظام البعث. كان الوطن بالنسبة إليهم مُلكا لصدام الحسين، لذلك تسابقوا على المغانم وعثوا فسادا بإشراف الرئيس المدني لسلطة الاحتلال الاميركي بول بريمر. سقط البعث وظلت البعثية تحكم من وراء ستار الليبرالية المتوحشة.
ربما يحتاج الشعب إلى حشد انتخابي لإعادة بناء البلاد. وحده الناخب العراقي يقرر. وحده الشعب يتطلع إلى انتخاب عراق آخر. عراق لا مكان فيه للفاشلين والناهبين والبعثيين والداعشيين والاميركيين. نعم، نعم للعراق.

 

         

رایکم