ملاحظات أولية حول "الإستراتيجية الأميركية" المعلنة لمواجهة "داعش" ستخضع للإختبار في الأسابيع المقبلة.
بالتزامن مع ذكرى هجمات الـ 11 من أيلول 2001، أطلق الرئيس الأميركي باراك أوباما بالأمس "الإستراتيجية الأميركية" للتعامل مع تهديد "داعش"، وهي إستراتيجية " شاملة ومستدامة لمواجهة الإرهاب" كما قال أوباما. وتستهدف إضعاف ثم القضاء على تنظيم "داعش" من خلال جهد متعدد الأطراف يشمل أربعة عناصر، توجيه ضربات جوية لـ "داعش"، دعم القوات التي تقاتل على الأرض (التسليح، التدريب، وتقديم الإستشارات)، تطوير جهود مكافحة الإرهاب (قطع التمويل، الحد من تسلل المقاتلين الأجانب، تحسين جمع المعلومات الإستخبارية وتعزيز الوقاية من أي هجمات إرهابية محتملة)، وأخيراً تقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين من أعمال "داعش" وممارساتها. تلا إعلان أوباما عقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية لـ 11 دولة في جدة بحضور وزير الخارجية الأميركي، وكان الاجتماع بمثابة حفل "تدشين" التحالف الذي تحدث عنه أوباما.
أُثيرت حول المبادرة الأميركية الكثير من الشكوك والاعتراضات المشروعة، مثل استثنائها دولا محددة (إيران ، سوريا، روسيا)، وبالتالي أُثيرت شكوك حول النوايا الحقيقة للحملة، هل هي موجّهة فعلاً ضد "داعش" أم ستكون بمثابة "حصان طروادة" للتسلل مجدداً الى المشهد السوري لمحاولة تعديل موازين الميدان تحت مسمى جديد؟ ثم الأهم كيف لدول متورطة في "تضخم" ظاهرة "داعش" طوال سنوات ثلاث أن تشارك في هذا الجهد "الدولي" للقضاء عليه؟ ومن هي "القوى المعتدلة" في "المعارضة" السورية التي يجري الحديث عن تسليحها وتدريبها كبديل لـ "داعش"، في حين أن لها ارتكابات لا تقل وحشيةً عمّا قامت وتقوم به "داعش"؟ إنطلاقاً من كل ما سبق، يمكن تقديم مجموعة من الملاحظات الأولية حول "الإستراتيجية الأميركية" المعلنة لمواجهة "داعش"، ملاحظات ستخضع للاختبار في الأسابيع المقبلة.
أولاً، تجد الولايات المتحدة اليوم فرصةً لتكريس صورة جديدة لمكافحة "الارهاب" بعيداً عن التجربة الكارثية لإدارة بوش الذي وضع الولايات المتحدة في مواجهة مع شعوب العالم والمنطقة، حيث شكّلت تلك "الحرب على الارهاب" مسرحاً لانتهاكات فاضحة للقانون الدولي ولخروقات حادة في التحالفات الأميركية. في المقابل يعمل أوباما من داخل مجلس الأمن ومن خلال أوسع شبكة تحالفات ممكنة.
ثانياً، تسعى إدارة أوباما إلى تأكيد أنها لا زالت "الأقدر" و"الأصلح" للعب دور "القيادة" في العالم، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص، بعد سنوات من الانسحاب الأميركي من العراق. وضعت أحداث ما بعد 2009، الدور "القيادي" للولايات المتحدة سواء في النظام الدولي أو الإقليمي – "الشرق أوسطي" – موضع شك وريبة، واليوم يحاول أوباما استغلال تهديد "داعش" وعجز أي لاعب عن مواجهة ذلك التحدي، بصورة منفردة، لترميم صورة "القيادة" الأميركية القادرة على حشد تحالف دولي تحت ظل قيادتها.
ثالثأً، يحاول أوباما الرد على الانتقادات الحادّة التي وُجهت له من خصومه كونه لا يمتلك إستراتيجية واضحة للشرق الأوسط، وأن سياسات واشنطن خلال حقبته كانت مترددة، عاجزة، وتعمل من خلال ردات الفعل. ولذا قدم أوباما هذه الإستراتيجية لتشغل حيز الفراغ في الإستراتيجية الأميركية الكبرى حتى نهاية ولايته. وكما تظهر تفاصيل الإستراتيجية المعلنة فإنها لا تشهد فعلاً تحولاً أساسياً في ما تبناه أوباما في مفهوم "القيادة من الخلف"، أي أننا لا نشهد اندفاعة أميركية جديدة في المنطقة على الأرجح.
رابعاً، بخلاف تجربة بوش الذي كرّس الحرب على الإرهاب باعتبارها حرباً على الإسلام، ما أدّى الى تضرر فادح في العلاقات الإسلامية – الإميركية، يأتي أوباما اليوم بمثابة "المخلص" لـ "الإسلام المعتدل". في إطار النقد والمراجعة لسياسات إدارة بوش، أطلق أكثر من خبير أميركي مراجعة مفادها أنه من غير المجدي تصوير الحرب الأميركية أنها بين الولايات المتحدة و"التطرف الإسلامي"، بل ينبغي القول إن هناك "حرباً داخل الحضارة الإسلامية" بين "المعتدلين" و"المتطرفين"، وقد اختارت الولايات المتحدة الوقوف الى جانب "المعتدلين". وعليه يتناسى كثيرون اليوم أن الولايات المتحدة هي شريك كامل في ظهور حالات "متطرفة" كـ "داعش"، والمسلمون يدفعون ثمن الحروب الأميركية في المنطقة وإفرازاتها.
خامساً، بالنظر الى اجتماع جدة، بمعزل عن مشاركة لبنان الرمزية، والحضور العراقي من باب كونه الساحة الأساسية للجهد المزمع، فإن الاجتماع هو عبارة عن لقاء للمحور الأميركي في المنطقة، المحور الذي تفسّخ في السنوات الأخيرة. يبدو أن من أهداف الإستراتيجية الأميركية إعادة اللحمة بين حلفائها، إلاّ ان رفض الأتراك التوقيع على البيان النهائي يشير الى حدّة الخلاف والتنافس بينها وبين السعودية وهو ما سيترك تأثيراً سلبياً واضحاً على المشروع الأميركي الجديد.
سادساً، يظهر أن الولايات المتحدة من خلال هذه الإستراتيجية تعيد التأكيد أن السعودية هي حجر الأساس في المشروع الأميركي في المنطقة لا سيما في العراق وسوريا، وأن لها الوزن الأساس في أي تسوية بكلا الملفين. هنا يظهر سبب جديد للاستياء التركي – القطري الذي تلقّى سابقاً ضربة قاسية في مصر بعد عزل مرسي، ويبدو الآن أن التسوية التي جرت في العراق مرّت بشكل أساس من خلال السعوديين ومصالحهم بعيداً عن الأتراك.
سابعاً، ضمن المدى المنظور سيكون العراق هو مسرح هذه الإستراتيجية الى حين نضوج ظروف جديدة في الوضع السوري. لا يجب الخلط بين رؤية وتقدير واشنطن لكل من العراق وسوريا، سوريا دولة معادية فيما العراق دولة متنافس عليها حيث للأميركيين مصالح جوهرية. ولذا رغم إقرار الأميركي أن الإيراني هو الأكثر حضوراً في الملف العراقي إلاّ أن لواشنطن مصالح توجب استقرار العراق. ولذا إن ما سعى الأميركيون إليه هو تحسين الدور السعودي في العراق من خلال التلطي خلف شعار "مظلومية السنة". وبعد التسوية الأخيرة بخصوص الحكومة العراقية، يبدو أنه تحقق أفضل ما يمكن للأميركي والسعودي الحصول عليه، ولذا نضجت التسوية التي تحمَّل فيها الأميركيون مسؤوليةً أساسيةً في مواجهة "داعش"، فيما يقود السعوديون "سنة العراق" نحو المساكنة مع الشرعية العراقية. بهذا الحد، رست المعادلة بين إيران والولايات المتحدة في العراق على قاعدة رابح – رابح.
ثامناً، في الشأن السوري، لم تكتمل شروط المساومة بعد. في المرحلة المقبلة سينتقل الوزن الأساس لـ "داعش" نحو الأراضي السورية، حينها يعتقد الأميركيون أن مساومة سوريا وحلفائها على سيناريو مشابه لما جرى في العراق، تصبح أكثر واقعيةً. أما فيما يخص تدريب وتسليح "المعارضة المعتدلة" فالأرجح أن هذا العنوان لن يشهد تحولات جوهرية، بل مجرد عنوان لإشغال الفراغ التي تعانيه واشنطن وحلفاؤها فيما يخص الوضع السوري. إدخال هذا البند في الإستراتيجية الأميركية كان من باب "الضرورة الشكلية" ولإرضاء السعوديين.
تاسعاً، هل تشرّع هذه الإستراتيجية، حضوراً أوسع وأكثر جرأةً للإيرانيين والروس في الحرب السورية تحت عنوان محاربة "داعش" وفقاً لقرار مجلس الأمن وكذلك تجربة الولايات المتحدة الحالية؟ لماذا لا يحق للروس والإيرانيين شن هجمات جوية على مقرات "داعش" في المرحلة المقبلة، بدل ان يبقى هذا البند كأداة مساومة في يد الأميركيين؟.
من خطاب أوباما الى قمة جدة كان "الضجيج يفوق عديد الحجيج". جرى إضفاء كثير من البهرجة والكرنفالية على المشهد وتشبيه الإسراتيجية الحالية بما قامت به واشنطن بعد هجمات 11 أيلول. أما من الناحية الفعلية ومع ضرورة التحسب للأسوأ واحتمالات الخداع والتضليل، لا زال الأميركي ملتزماً الى حد بعيد بقواعد اللعبة في المنطقة ولن نشهد تحولاً أميركياً كبيراً كما يروج كثيرون. الجرأة الأضافية التي يبديها أوباما مرتبطة بكونه ليس مرشحاً مقبلاً للرئاسة الأميركية، ولكن المؤسسة الأميركية تعلمت الكثير مما مضى. تجربة أوباما تشير الى أن "صدمة" العراق خلقت موجة "تعقل وهدوء" في مراكز القرار الأميركي. الأميركي أقل جرأةً الآن ولكن أكثر دهاءً، المقلق ليس واشنطن بل أيتامها في المنطقة.
النهاية