
وقال الباحث الفلسطيني "باسم القاسم": لم تقتصر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة على القصف والدمار، بل اتخذت شكلا أشد قسوة يتمثل في سياسة التجويع الممنهجة، عبر استهداف مقومات الحياة الأساسية من زراعة وغذاء وماء، وفرض حصار خانق ومنع دخول المساعدات الإنسانية؛ ما أدى إلى تحويل القطاع إلى منطقة منكوبة بكل المقاييس، بل إلى منطقة مجاعة في الواقع الفعلي.
وأضاف: على الرغم من ذلك، وبما يثير الاستغراب والاستنكار، لم تعلن الأمم المتحدة رسميا، حتى الآن، قطاع غزة منطقة مجاعة، رغم أن الأدلة والعديد من التقارير باتت تشير إلى أن الجوع الحاد أصبح واقعا على الأرض في مناطق عدة، وخاصة شمال القطاع؛ ففي تقرير صدر عن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC - Integrated Food Security Phase Classification).
وأشار إلى أن أن نحو 1.95 مليون شخص في غزة (ما يعادل 93 بالمائة من السكان) يواجهون انعداما حادا في الأمن الغذائي (من المستوى الثالث أو أكثر)، من بينهم 470,000 شخص (22 بالمائة) يعانون من المستوى الخامس، أي المجاعة الكاملة.
وأوضح: كان المخطط الصهيوني واضحا، إذ لجأ إلى استخدام أقصى درجات القوة العسكرية، بهدف حرمان سكان القطاع من الوصول إلى المصادر والموارد الغذائية، وذلك من خلال تدمير وإتلاف الأراضي الزراعية، وتدمير كافة مصادر المياه، من آبار ومحطات تحلية. هذا السلوك الصهيوني جاء في إطار حربه لتقويض مقومات الحياة وإجبار الفلسطينيين على هجر أماكن سكنهم، منتهكا كل القوانين الدولية والإنسانية، ومتخذا من صمت المجتمع الدولي ضوءا أخضر لإتمام حرب الإبادة الجماعية.
استهداف الأراضي الزراعية
وقال الباحث الفلسطيني: إن قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، كان قطاع غزة يحتوي على نحو 170–185 كيلومترا مربعا من الأراضي الزراعية المزروعة، أي ما يعادل 47–50 بالمائة من إجمالي مساحة القطاع. كانت هذه الأراضي تنتج ما يلبي جزءا كبيرا من الاحتياجات الغذائية والاقتصادية للسكان، لكن مع الحرب، تعرضت الأراضي الزراعية لدمار واسع؛ حيث أظهرت بيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، بالتعاون مع مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (UNOSAT)، وبالاعتماد على صور الأقمار الصناعية، أن نحو 77.8 بالمائة من الأراضي الزراعية في قطاع غزة أصبحت غير قابلة للاستخدام بسبب تحوّلها إلى مناطق عسكرية، أو نتيجة القصف والتجريف، تاركة فقط 688 هكتارا (6.88 كيلومترا مربعا) (4.6 بالمئة) صالحة للزراعة من إجمالي حوالي 15,053 هكتارا (150.53 كيلومترا مربعا) من المساحة الزراعية المتوفرة قبل الحرب.
تدمير مصادر المياه
وأضاف: أما بالنسبة للآبار، فقد عمد الاحتلال إلى تدمير غالبيتها بشكل مباشر، كما أن منعه دخول الوقود وتعمده استهداف محطات الكهرباء ومنع إصلاحها، أدّيا إلى تعطيل قدرة تشغيل ما تبقى من الآبار القابلة للعمل؛ فوفق تقارير منظمة أوكسفام، فإن حوالي 67 بالمائة من الآبار الارتوازية في القطاع قد دمرت، بينما ما تزال معظم الآبار الصغيرة غير قادرة على العمل بسبب نقص الوقود أو الكهرباء. كما أدت سياسة الاحتلال إلى تضرر أكثر من 85 بالمائة من محطات تحلية المياه في قطاع غزة نتيجة القصف وتعطل الكهرباء والوقود، ما أدى إلى تعطّل نحو 90 بالمائة من المحطات وحرمان سكان القطاع من المياه الصالحة للشرب.
التحكم بالسعرات الحرارية
وقال الدكتور باسم القاسم إن لم تكن سياسة التجويع التي تنتهجها إسرائيل وليدة الحرب الأخيرة، بل امتدادًا لاستراتيجية محكمة بدأت عام 2007، ارتكزت على خنق القطاع عبر الحصار والتحكم بالمعابر، وصولا إلى حساب كميات الغذاء المسموح إدخالها بدقة تضمن البقاء دون الجوع الكامل.
وتابع قائلا: قد نشرت صحيفة هآرتس سنة 2012 وثيقة سرية هي عبارة عن خطوط حمراء، أعدتها وحدة تنسيق الأنشطة الحكومية سنة 2009، خلال حكومة إيهود أولمرت، كشفت فيها أن "إسرائيل" قامت بحساب الحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاجها سكان غزة للبقاء أحياء دون الوصول للجوع الكامل، وفق مقياس دقيق؛ لكن عندما وضع جدول الحد الأدنى للسعرات الحرارية، كان يعيش في قطاع غزة نحو 1.4 مليون نسمة، بينما يقدر عددهم اليوم بنحو 2.2 مليون نسمة، ويضاف إلى ذلك الاختفاء الكامل للإنتاج الغذائي المحلي، الزراعي أو غيره. ووفق التحليل، لا يزال الاحتلال يستخدم تقديرات عام 2007 في حساب كمية الأغذية المسموح بدخولها اليوم.
تجويع مع سبق الإصرار
ولفت إلى أنه اعتمدت الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو سياسة الإنكار وعدم الاعتراف بوجود مجاعة في غزة، فقال نتنياهو: "لا ترى أحدا، ولا واحدا، هزيلا منذ بداية الحرب وحتى اليوم". وعلى الرغم من أنه لم يستخدم صراحة مصطلح التجويع لاعتبارات سياسية وتجنبا لإثارة غضب المجتمع الدولي، إلا أنه عبر في مناسبات عدة عن دعمه لمنع إدخال المواد الغذائية والوقود إلى غزة، كأداة ضغط أمني على حركة حماس. أما وزير المالية الإسرائيلي "بتسلئيل سموتريتش"، فقد ذهب أبعد من ذلك، قائلا: ترك سكان قطاع غزة يموتون جوعا قد يكون أمرا مبررا وأخلاقيا. كما أيد هذه السياسة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق "يوآف غالانت". ووفق استطلاع رأي نشر في فبراير/ شباط 2024، عبر أكثر من 68 بالمائة من الإسرائيليين اليهود عن دعمهم لسياسة تجويع القطاع.
أداة هزيمة
وأضاف الباحث الفلسطيني: لا شك أن الكيان الصهيوني وجد في الصمت الدولي والتخاذل العربي والإسلامي ضوءا أخضر وغطاء زمنيا ممتدا، سمح له بمواصلة سياسة التجويع الممنهجة، لتحقيق ما عجز عن إنجازه عسكريا. ومع كل ما سبق، وعلى الرغم من هذا الجحيم المفروض، تبقى إرادة الشعب الفلسطيني أصلب من كل أدوات الحصار، وصدق الله العظيم حين قال: "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".