۳۳۴مشاهدات
رمز الخبر: ۶۵۱۶۴
تأريخ النشر: 29 March 2022

مدخل:

بما أننا تحدثنا بإطناب عن الأيام الأولى للعملية الخاصة الروسية في أوكرانيا والتي ابتدأت في 24/02/2022 فسنركز في هذه القراءة على تقييم الأداء العسكري للطرفين الروسي والأوكراني خلال الشهر المنصرم، لذا فهذا التقرير غير معني بعرض اليوميات العسكرية بقدر ما سيسلط الضوء على أداء ونجاحات وإخفاقات الطرفين المتحاربين، وسيحاول قدر الامكان أن يلخص طرائق وتقييم نجاحاتهم وفقاً لما أعدوه من خطط دفاع وهجوم لتحقيق أهدافهم العسكرية.

 

 

أولا: تقييم العملية العسكرية الروسية

بحلول الوقت الذي انتهت فيه العمليات الافتتاحية، ظهر الوضع العام إلى حد كبير كما هو الحال على الأرض في أوكرانيا، مع:

○ انحرافين رئيسيين طوعيين نتجا عن تعديل الخطة الاستراتيجية الروسية التي اضافت إلى هدف تحرير كامل إقليم الدونباس هدفاً جديداً وهو عزل شرق أوكرانيا عن غربها.

○ انحرافين قسريين في شرقي كييف. أولاً، دفع الروس بقوة أكبر خارج بيلاروسيا إلى الغرب من نهر دنيبر - شمال كييف - لضرب المدينة من الخلف. وثانيًا، توقف الهجوم الروسي في خيرسون وعدم الاقتراب من مدينة أوديسا.

بدأت العمليات الروسية بسلسلة من الضربات الصاروخية والجوية (قريبة من أسلوب القصف الاستراتيجي إلا أنه لا يمكن وصفها بذلك لأنها لم تكن بكثافة ذلك القصف)، بهدف القضاء على القوات الجوية الأوكرانية وتدمير نظام الدفاع الجوي المتكامل في البلاد. وهكذا، كان التركيز الأساسي للروس، خلال الأيام القليلة الأولى من الحملة، يهدف إلى:

○ اكتساب حرية المناورة في الأجواء.

○ تحقيق السيطرة الجوية.

○ تحييد نظام الدفاع الجوي والصاروخي الأوكراني البعيد والمتوسط المدى.

○ تدمير أنظمة الدفاع الساحلية الأوكرانية.

لذلك، وعلى الرغم من أن عدد الضربات الفعلية التي قام بها الروس في أول 24 ساعة من الحرب كان محددًا، إلا أن تأثيرها كان مختلفًا إلى حد كبير. في المناورات القادمة، ويبدو من الضربات الروسية الاستراتيجية التي انتشرت على نطاق أوسع لتحيد مجموعة من الأهداف الأساسية. إلا أن الروس استخدموا ذخائر أقل بكثير مما هو مطلوب لشل الدفاعات الجوية الأوكرانية، أو لتقويض قدرتهم في السيطرة على القوات في الميدان بشكل كبير، وتبين لاحقاً أن قسماً كبيراً من هذا القصف كان غير ذي جدوى، بسبب التشكيلات التي اعتمدتها القوات الاوكرانية في الساعات ال 72 الأولى من الحرب والتي قضت باعتماد تشكيلات باستعداد صغير، أكبر تشكيل تعبوي فيه لا يتعدى الكتيبة. باختصار، كانت الهجمات الروسية مدمرة للأهداف التي قصفت ولكنها كانت غير كافية للتغلب على كامل الدفاعات الأوكرانية.

تم تدمير جزء كبير من القوات الجوية الأوكرانية على الأرض بالوسائل التالية:

  1. ضربات صواريخ كروز كاليبر وKh-101.
  2. استهداف بعمل مباشر من قوات العمليات الخاصة.
  3. الضربات الجوية.

تم تدمير جزء أقل من الطائرات في الأجواء الأوكرانية، حيث تم إسقاط بعضها بواسطة أنظمة الدفاع الجوي الروسي بعيدة المدى من روسيا، التي تمتد نطاقاتها إلى المجال الجوي الأوكراني مثل (الـ s400 و الـ s500 ).

وبقيت بعض القوات الجوية الأوكرانية في المعركة حيث تم إبعادها عن مدى صواريخ الدفاع الجوي الروسي باتجاه الغرب وإخفاءها في مطارات بطريقة يصعب كشفها إلا بواسطة طيران الاستطلاع والكشف الروسية، التي لم تكن تقترب إلى المجال المجدي في غربي أوكرانيا. ساهمت بعض منظومات التشوش والمسح الراداري التابعة للناتو في تشكيل مظلة الكترونية ورادارية للرصد والإنذار المبكر لمنطقة تواجد الطائرات الحربية الاوكرانية الـ 57 بفترة إنذار مقبولة.

في الوقت الحالي، يبدو أن الروس يمتلكون تفوقًا جويًا، لكن ما يزيد عن 30 طلعة جوية يشنها الأوكرانيون يوميًا حرمت الروس من مستوى الهيمنة الجوية التي يفضلونها.

من جهة ثانية وبالاقتران مع الدفاعات الجوية المتبقية، فقد حققت قوات الدفاع الجوي الاوكرانية بعض النجاح في التنافس على المجال الجوي الأوكراني فمع اقتراب اليوم الخامس من الحرب، كانت الدفاعات الجوية الأوكرانية لازالت تعمل، ولو كانت بمستوى منخفض من الفعالية.

كانت الأهداف الأولية للصواريخ والطائرات الروسية هي أنظمة S-300 الأوكرانية حول كييف، ومنحنى نهر دنيبر، وخيرسون، وأوديسا. أما الأهداف الثانوية فكانت عبارة عن عشرات أنظمة (BUK SA-17) الأوكرانية. كان الضرر الذي لحق بنظام الدفاع الجوي الأوكراني واسع النطاق، مما أدى إلى تحييد شبكة الدفاع الجوي المتكاملة الأساسية في اليومين الأولين، وعلى الرغم من أن تشتت أنظمة BUK الأوكرانية إلا أن الأيام أكدت وجود قدرة ضئيلة متبقية مضادة للطائرات ولكنها مؤثرة بنسبة ما.

تأخر الهجوم البري الروسي الرئيسي حتى مساء 27-28 شباط 2022، حيث ركز الروس على عدة أيام من المناورة بالنار بهدف تدمير قدرات العدو الحاسمة قبل الزج بالقسم الأكبر من قواتهم البرية في المعركة.

كانت خطة روسيا هي الاستفادة من فترة كافية لتحييد الكتل الدفاعية الرئيسية الاوكرانية في البر والبحر والجو وكان تأثير خطة المناورة النارية التمهيدية عميقاً، فبمجرد تقدم القوات البرية، حظيت بدعم قوي من القوات الجوية الروسية، التي تحلق منذ اليوم الخامس تقريباً في الأجواء الأوكرانية بلا منازع تقريباً.

في هذا الوقت، حوّل الروس كل طاقتهم النارية (مدفعية وطيران وصواريخ وبحرية) إلى تدمير أنظمة الدعم الناري الأوكرانية.

وهنا تتبادر عدة ملاحظات حول كمية استخدام الطاقة النارية الروسية التي ظهر أنها لم تكن بمستوى ما كان وما زال متاحاً للجيش الروسي طوال المعركة.

في الأسبوع الأول للحرب، تجنب الروس ضرب مقار القيادة والسيطرة الإقليمية الأربعة الأوكرانية وركزوا فقط على المقرات المتوسطة والصغيرة، من أجل السماح للمقار الاقليمية بإبلاغ قواتها عن استسلامها إذا انهارت الحكومة الأوكرانية إلا أن هذا لم يتحقق بسبب رفض القيادة الأوكرانية الاستسلام. مما حرم الروس من فرصة ثمينة جداً حيث تبين أن القيادة الأوكرانية ووفقاً لتقارير عسكرية أمريكية اعتمدت نصائح غرفتي عمليات لفيف غربي أوكرانيا وألمانيا (مقر الـ EUCOM) اللتين أدارهما ضباط عمليات أمريكيون وبريطانيون، فوجهت أمراً لهيئة الأركان الأوكرانية خلال 72 ساعة من بدء المعركة بإعطاء أوامر تشغيلية للجيش وفقاً لخطة الحرب التي أشرفت على رسمها قيادة تخطيط العمليات في الناتو، وجرت المناورة عليها مرتين في ربيع العام 2020 وصيف العام 2021. وتقضي هذه الخطة عند اعتماد الدفاع تحويل 75% من الجيش إلى قوات حرس إقليمية وتفكيك هذه البنية والهيكلية الكبيرة للجيش إلى 36 كتيبة إقليمية تتراوح الكتيبة فيها عدداً بين (800 و4500 فرداً) وتتفاوت حسب المهمة عديداً وتسليحاً واختصاصاً،  بين قوات مشاة صرفة وبين وقوات هجينة (مشاة – ضد الدروع – دفاع جوي فردي – فصائل تخريب – مشغلي طائرات بدون طيار – قوات حرب الكترونية – اتصالات وغيرها)، وتم اعتماد الكتيبة كأصغر تشكيل قتالي في قوات الدفاع الأوكرانية على أن تنقسم هذه الكتائب إلى مفارز مقاتلة يتراوح استعدادها بين الفصيلة والسرية. وهنا لا بد من الاستطراد قليلًاً والحديث عن عنصر كان ميزة مهمة للأوكرانيين وله تأثير كبير في جودة قتال التشكيلات العسكرية الاوكرانية الصغيرة، هذا العنصر ناتج عن الاهتمام الذي أولاه المدربون الأمريكيون اهتماماً خاصاً، وتمثل ببناء و تأهيل شكل من القيادة التكتيكية والميدانية المختصة من ضباط الصف الاوكرانيين برتبة (عريف – رقيب – معاون ضابط ) الذين تولى صقلهم مدربون أمريكيون منذ العام 2016 وخرجوا الآلاف منهم ببرنامج تدريبي طويل المدى متطابق مع ما تدربه ضباط الصف الأمريكيين أنفسهم وفق التنشئة العسكرية الأمريكية التي تركز كثيرًا على بناء هيئة ضباط صف مهنية من عرفاء ورقباء يفهمون الصورة الكبيرة للميدان ويتم منحهم السلطة المفوضة لاتخاذ القرارات في ساحة المعركة أثناء قيادتهم لوحداتهم.

ومن الجدير ذكره أن الضباط الامريكيين المبتدئين في الكليات العسكرية الكبرى ككلية وست بوينت العسكرية وغيرها يتم تعليمهم العمل عن كثب مع ضباط الصف المحترفين. وغالباً ما يكون المشرف التنفيذي على التدريب الميداني ضابط صف برتبة رقيب أول ذو خبرة طويلة ومشاركة في الحروب العديدة التي تخوضها أمريكا.

هذه الميزة سمحت لضباط الصف الأوكرانيين بقيادة السرايا والفصائل بمهارة، وفي حالتين تم تسجيل قيادة كتيبة كاملة من قبل ضباط صف، وأهمية ذلك ظهرت عندما بدأت القوات الأوكرانية تطبق دفاع المنطقة من خلال السرايا والكتائب المنتشرة، فحصدت ما تم زرعه خلال 6 سنوات في المعركة، خاصة في ظل انقطاع الاتصالات بين القيادة والوحدات المنتشرة في الميدان.

كانت تلك الخطة التي اعتمدها الأوكرانيون بإعادة هيكلة قواتهم وتأسيس مفارز صغيرة تهدف إلى ممارسة أكبر قدر من القتال التعطيلي والإيذائي الذي يهدف إلى إبطاء العمليات الروسية المتوقعة، وهنا يمكن الجزم بأن بعض هذه "التجريدات = (الكتائب الهجينة)" قد قاتلت بشكل لم يكن متوقعًا حتى من قبل مدربيها في الناتو. وهنا يتبين معنا أحد العناصر المهمة ومدى تأثير إعادة التشكيل الأوكرانية هذه على إطالة العملية التي كان مقرراً لها روسياً أن تنتهي في 5 آذار 2022.

 

الأهداف العسكرية الروسية من عمليتها الخاصة في أوكرانيا:

تقدمت القوات البرية الروسية على ستة محاور أساسية هي:

  1. محور بيلاروسيا / شمال وغرب كييف، وهدفه:
    • تأمين جانبي نهر دنيبرو، من شمال وغرب دنيبرو بهدف عزل كييف وقطعها عن الاتصال بغربي أوكرانيا أو الاستفادة من أي دعم يأتيها من الناتو عبر الحدود الغربية من بولندا ورومانيا.
    • تأمين منطقة تشرنوبيل المحظورة.
    • حشد قوات روسية كبيرة شمال وغرب العاصمة الأوكرانية تمنع القوات الأوكرانية في كييف من المغامرة بإرسال أي دعم بشري إلى الجنوب والشرق.
    • إجبار القوات الأوكرانية الكبيرة الموجودة في كييف على تضييق مناورتها إلى الحدود الدنيا لا يتعدى مجالها 20 كيلومتراً في محيط العاصمة.
  2. محور خاركيف، وهدفه:
    • حصر القوات الأوكرانية الموجودة فيه ومنعها من فتح جبهة متقدمة تبعد 40 كلم عن الحدود الروسية.
    • منع أي مناورات أوكرانية كبيرة خارج المدينة وخصوصاً في الاتجاهين الجنوبي والغربي حيث يوجد عوارض حساسة طبيعية واصطناعية مائية مؤثرة
    • منع القوات الاوكرانية الموجودة في خاركيف من دعم أي عملية دفاع في منطقة الدونباس.
    • جعل المفارز الأوكرانية خارج خاركيف ضعيفة وبدون دعم ومساندة حتى يسهل تطويقها والقضاء عليها.
  3. محور سومي الهدف منه:
    • حصر القوات الأوكرانية الموجودة فيه ومنعها من فتح جبهة متقدمة تبعد 20 إلى 25 كلم عن الحدود الروسية.
    • منع القوات الموجودة في سومي من دعم القوات الموجودة في خاركيف أو من التأثير على العمليات الروسية هناك.
    • منع أي مناورات أوكرانية كبيرة خارج المدينة وخصوصاً في الاتجاهين الشمالي والغربي لتأمين اندفاعة القوات الروسية إلى شرق كييف باتجاه الخط الممتد من ضاحية بورفاري الصناعية شرق كييف إلى مطار بوريسبيل الدولي الرئيسي في جنوب شرق كييف.
    • تيسير تطويق شيرنييف لمنعها من التأثير استراتيجياً على خلفية وميمنة القوات الروسية التي اتجهت إلى شرق كييف فضلاً عن منعها من التأثير على قوة التأمين الروسية الرئيسية الموجودة شمال شرق كييف.
    • إجبار المفارز الأوكرانية الضعيفة غرب سومي والتي لا تتمتع بدعم ومساندة على الانسحاب باتجاه مدينتي شيرنييف أو دينيبرو.
  4. محور الدونباس (دونيينز- ولوهانسك – ماريبول)، والهدف منه:
    • احتلال كامل إقليم الدونباس ووصله بروسيا شرقاً وبشبه جزيرة القرم غرباً.
    • تأمين قاعدة لوجستية كبيرة للقوات في الجبهات الجنوبية من خلال المطارات وخطوط النقل الرابطة بين الاقليم وروسيا.
    • المساهمة في الاطباق البري على مدينة ماريوبول وعزلها من الجهتين الشرقية والشمالية والاستفادة من رأس الجسر الساحلي شرقي ماريوبول لاحتلال ميناء المدينة وعزل أوكرانيا عن بحر آزوف.
  5. محور القرم – خيرسون، وهدفه:
    • احتلال مدينة خيرسون الاستراتيجية ومنع أي دعم قتالي لجبهة ماريوبول.
    • محاصرة ميكولاييف بعد عزل القسم الغربي منها واحتلال قسمها الشرقي المطل على أحد فروع نهر الدنيبير الذي يصل أوكرانيا بأوديسا وبالبحر الاسود.
    • تأمين الوصول إلى قناة القرم وتفجير السد الذي بنته أوكرانيا بعد العام 2014 ومنعت من خلاله تزويد شبه جزيرة القرن بالمياه.
    • التوجه من شمال خيرسون - ميكولاييف غرباً باتجاهي (أوديسا جنوباً والمساهمة في عزلها برياً) (المقاطعة الروسية المستقلة في مولدوفا (اوديسكا) شمالاً لوصلها برياً عبر خيرسون والدونباس بروسيا)
    • التوجه شمال ميكولاييف لمسافة تتعدى ال 380 كيلومتر لتحقيق الاتصال بالقوات التي أدخلت من بيلاروسيا والتي سوف تتمدد جنوب غرب كييف وذلك بهدف السيطرة على كامل الحوض الجنوبي لنهر دنيبير (يصبح اسمه هناك نهر دنيبرو) وعزل كامل أوكرانيا الغربية عن أوكرانيا الشرقية.
  6. محور القرم ماريوبول، وهدفه:
    • منع أي مناورة من المدينة براً أو بحراً تجاه مقاطعة لوهانسك في اقليم الدونباس للدفاع عنها ومنع احتلالها.
    • عزل وتدمير القسم الأكبر من كتيبة آزوف الاوكرانية اليمينية المتطرفة.
    • قطع اتصال أوكرانيا ببحر آزوف.
    • تأمين منفذ لوجستي بحري للقوات الروسية لدعم أي عمليات مستقبلية.
    • وصل كامل المناطق الساحلية الاوكرانية ببعضها وربطها مع روسيا.

 

 

 

ثانياً: تقييم العملية العسكرية الدفاعية الأوكرانية:

كان القرار المبكر الحاسم بالنسبة لأوكرانيا هو ما يجب فعله مع 17 إلى 20 كتيبة مصفوفة على خط السيطرة في منطقة دونباس. وإدراكًا منها أن هذه القوات كانت معرضة لخطر التطويق ولا يمكنها تحمل هجوم شامل من قبل جيش الأسلحة المشتركة الروسي الثامن، اذا فقد تم اتخاذ القرار بالانسحاب إلى نهر دنيبر، باستثناء لواء المشاة الميكانيكي 92 الأوكراني بالإضافة إلى أجزاء من الألوية 53 و54، اللذان تم إرسالهما لتعزيز المواقع في خاركيف وسومي. كان القصد من هذه الأوامر هو جذب جيش الأسلحة المشتركة الروسي الثامن إلى إنفاق كميات هائلة من الموارد ليصل إلى مواقع فارغة، بعد أن يكون الأوكرانيون قد انسحبوا بالفعل إلى نهر دنيبر.

هنا يظهر بشكل واضح أحد الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها الأوكرانيون والتي دفعوا ثمنها بعد انقضاء الأسبوع الأول من الحرب. كان الابتعاد عن خط التماس في الدونباس صعبًا، حيث أن التراجع تحت الضغط دائمًا ما يكون كذلك. تم اجتياح ست كتائب أوكرانية على الأقل، وتكبدت الكتائب الباقية خسائر فادحة في الاستهداف الجوي وهي في طريقها إلى نهر دنيبر.

كما دفعت القيادة الأوكرانية ثمناً باهظاً على المستوى التعبوي حيث استغلت القوات الروسية الفوضى (التي تسببت بها عمليات سحقها للكتائب الأوكرانية المتراجعة من الدونباس) لتنفذ مناورة اختراق عميق بثلاث فرق مدرعة من الجيش الروسي الثامن إلى شرق كييف قطعت خلالها هذه القوات 200 كيلومتر دفعة واحدة في أقل من 72 ساعة كما استفادت أيضاً من إحكامها للطوق على خاركيف وسومي لتمرر عملية الاختراق العميق بسرعة وسلاسة إلى حدود العاصمة الشرقية. فرغم أن الأوكرانيين الذين كانوا شبه مقتنعين بعدم امتلاكهم القدرة ولا الموارد على استثمار تشكيلاتهم التعبوية الكبيرة لذا اعتمدوا على التشكيلات التكتيكية من كتيبة نزولاً.

وقعت القيادة الأوكرانية بهذه التدابير بخطأ كبير في التقدير إذ توقعت جعل خاركيف ستالينجراد ثانية، من شأنها أن تمتص أعدادًا متزايدة من القوات الروسية في معركة استنزاف دموية وتبين أن الأوكرانيين قد وقعوا بفخ كبير وذهبوا إلى حيث هدف المخططون العسكريون الروس الذين لم يكونوا في وارد احتلال خاركيف وسومي بل عزلهما وتطويقهما طوقاً طويلاً محكماً ثم الإطباق عليهما بعدما تنعدم موارد وإرادة القتال لديهما. إلا أن الخطأ الذي ارتكبته القيادة الأوكرانية في خاركيف وتسومي عوضته في مناطق أخرى مثل أربين وماريوبول وميكولاييف وشيرنييف وشرق كييف وذلك على الشكل التالي:

○ استفادت مما يسمى بمناطق القتل، أو مناطق مستهدفة محددة، لجذب القوات الروسية إليها.

○ شن هجمات شديدة التركيز على القوات الروسية المعزولة.

○ إنشاء طرق احتياطية بديلة للطرق التي تم التقرب منها لنصب وتنفيذ الكمائن لاستخدامها في كمائن أو عمليات لاحقة.

○ ضرب الوحدات الميكانيكية عند توقفها.

○ استهداف الأصول اللوجستية في المناطق التي تسيطر عليها روسيا، مما يجبر الروس على "إعطاء الأولوية للدفاع عن سلسلة التوريد الخاصة بهم وحرمانهم من إعادة الإمداد التي تشتد الحاجة إليها".

○ شن هجمات مضادة إيذائية تنفذها وحدات باستعداد "سرية" على مناطق ضعيفة الحماية في جغرافية الانتشار الروسي.

○ شن هجمات مضادة منسقة من عدة محاور واتجاهات لإجبار الروس على إعادة تشكيل قواتهم دفاعياً واتخاذ مساتر للجنود والعتاد والتراجع في بعض الأحيان عن خطوط الإمداد الاوكرانية مما يسمح لبعض الأحياء أو البلدات الأوكرانية المحاصرة شرق وشمال كييف باعادة الامداد.

○ الاستفادة من بعض الاختلالات اللوجستية الروسية لتنفيذ هجمات قنص دبابات أو مصادرتها، وقد سجلت أكثر من حالة استفاد فيها الأوكرانيون من توقف فصيلة دبابات أو عربات مدرعة روسية لفترة طويلة بانتظار تزويدها بالوقود اللازم لتشغيل الآلية أو للتدفئة مناسبة للأوكرانيين للانقضاض فكانوا يهاجمون هذه الفصيلة المدرعة العزلاء إما لحرقها أو للسيطرة عليها والاستفادة منها ضد الجيش الروسي.

○ استفاد الأوكرانيون من عدم تشفير بعض أجهزة الاتصال الروسية ليضعوا خارطة تعبوية لتشكيل وانتشار واستعداد القوة الروسية المنتشرة أو المهاجمة مما مكنهم من ضرب الآليات المؤثرة كآلية ضابط الاتصالات أو آلية آمر الفصيلة والسرية أو آلية الدعم اللوجستي (محروقات – طعام – ذخيرة) فكانوا يستهدفون الهدف المؤثر على الفصيلة أو السرية أو حتى الكتيبة الروسية، وفي بعض الأحيان تمكن الأوكرانيون بمساعدة أمريكية أو بريطانية الكترونية فنية من تحديد أمكنة وتحركات جنرالات ورتب عالية روسية وتحييدهم إما بالقتل أو بالجرح وذلك من خلال رصد المكالمات غير المشفرة على أجهزة الاتصال العسكرية أو رصد الهواتف الخليوية.

○ ضرب القوات الروسية ونصب الكمائن خلف خطوط التماس بوحدات سريعة الحركة، غالبًا في الليل، أثبت أنه من بين التكتيكات الميدانية الأكثر فاعلية ويضيف إلى العثرات اللوجستية التي لم يتمكن الروس من التغلب عليها.

 

إن مهاجمة خطوط الدعم الروسية أثبتت بالفعل أنها استراتيجية مهمة لتقليل المزايا العسكرية للجيش الروسي في بعض المحاور حيث إن المركبات الروسية منتشرة في منطقة واسعة على جبهات متعددة، وهي تتباطأ باستمرار لإبقاء الجنود دافئين في طقس أوكرانيا البارد، مما يجعل تجديد الوقود تحديًا هائلاً ووجودياً.

أمرت هيئة الأركان في الجيش الأوكراني الأسبوع الماضي في بيان علني جنودها بتجاهل المركبات المدرعة وبدلاً من ذلك مهاجمة شاحنات الوقود غير المدرعة الي يقودها غالباً جنود روس غير مدربين تدريباً جيداً. قال زاغورودنيوك، رئيس مركز استراتيجيات الدفاع، وهو مركز أبحاث أوكراني، إن قطع إمدادات الوقود يحول الدبابات ومركبات المدفعية الصاروخية إلى عوائق على الطريق.

مع بقاء المركبات الروسية في مكانها، تهاجمها القوات الأوكرانية، تاركة إياها حطامًا مشتعلًا واضعة الجنود الروس أمام خيارين أحلاهما مر:

○ البقاء داخل مركباتهم حيث يكونون عرضة لضربة صاروخية محتملة.

○ محاولة الهروب سيرًا على الأقدام ومواجهة احتمالية التعرض لضربة صاروخية أو طلقة قناص أو نيران مجموعة تكمن في الطريق.

رابعاً: خلاصات تحليلية

الخلاصة الأولى: يُعتبر الجنرال احتياط "عاموس يدلين" الطيار السابق والرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية الصهيونية "أمان" أحد المنظرين العسكريين الذين شاركوا في قولبة "خطة العقاب والأفعى الامريكية" التي جرى تكييفها وفقاً لمتطلبات جيش الكيان المؤقت الذي طبقها في لبنان بحرب نيسان 1996. ويعلق يدلين مستخلصاً من الدروس المستفادة من تلك الخطة بعد تطبيقها بأن عمادها وهو القصف الجوي الاستراتيجي لا جدوى له بمواجهة قوة تمارس حرب العصابات إلا إذا أتبع بحملة قصف جوي وبري تكتيكي مستندة إلى معلومات قتالية شاملة ودقيقة ومحدثة.

يمكن اعتبار توصيف "يدلين" هذا دقيق بنسبة كبيرة وتؤكده دراسة مجموع الحروب الحديثة في القرن الـ 20 التي قاتلت فيها قوة متفوقة تكنولوجياً وعددياً قوة صغيرة تجيد تطبيق مبادئ حرب العصابات المعتمد على القتال من مناطق داخلية بأسلوب التقرب غير المباشر حيث أن قوة حرب العصابات الصغيرة هذه تكون قادرة على التخفي واتقاء عمليات القصف الاستراتيجي في مخابئ وتحصينات معدة لهذا الغرض، وتستطيع عند نهاية مرحلة القصف الاستراتيجي أن تخرج من مخابئها وتهاجم قوات الخصم بشراسة. ونظراً لامتلاكها ميزة الظهور والتخفي بسلاسة نتيجة لاعتمادها على أهم مبدأ عسكري في القتال وهو مبدأ خفة الحركة، فإنها تستطيع أن تفرض على القوة المهاجمة الاتجاه الذي تقاتل فيه كما أنها قادرة على تعطيل تكتيكات العدو الجديدة أو المستحدثة، فكيف إذا كانت تلك القوة تطبق الجيلين الثالث والرابع من الحروب وترتكز إلى مدرسة الحرب اللا متماثلة كجيل أحدث لعقيدة حرب العصابات الكلاسيكية.

ما يجري منذ 24-2-2022 على الجبهة الأوكرانية يمكن اعتباره تطبيقاً حرفياً لما سلف حيث أن أساليب مناورة القوات شبه النظامية الأوكرانية المدربة جيداً تشبه تطبيقات القتال التي تعتمدها منظمات تعتمد حرب العصابات الحديثة. وبحكم أساليب قتال القوات الأوكرانية تمتعت بمميزات عدة أهمها:

○ طريقة القتال المجدية لمسرح العمليات الاوكراني.

○ معرفة الأرض وحسن المناورة عليها والاستفادة من ميزاتها بحرمان الخصم من عناصر المفاجئة والخداع.

○ اعتماد مبدأ خفة الحركة على مدار الساعة وتفوقها في القتال الليلي على خصمها بفعل تزويدها من الناتو بأحدث معدات القتال الليلي.

○ التشخيص الجيد لنقاط ثقل عدوها لاستهدافها (وهي في حالة أوكرانيا نقاط الضعف كما سيأتي تالياً).

○ تمتعها بوفرة المعلومات الاستخبارية ذات الطبيعة التكتيكية من مصادر محلية وأجنبية (الناتو.... الخ) ومنها المعلومات الحساسة ذات الطابع السايبري التي ترتبط بأجهزة الاتصال الخليوي واللاسلكي لعدوها، مما مكنها بمساعدة فنية الكترونية من الناتو من وضع خريطة الكترونية كاملة لترتيب وانتشار واستعداد عدوها، ومكنها في بعض الحالات من تحييد جنرالات ورتب عالية في الجيش الروسي.

○ اعتمادها على طرق وأساليب قتال واشتباك فرضت على الجيش الروسي في أكثر من منطقة ما حاول تجنبه قدر الامكان منذ بداية المرحلة الثانية من عمليته العسكرية في 28-2-2022 بتطويق وعزل وتجاوز المدن ونقاط الدفاع الاوكرانية القوية، وذلك بهدف عدم الوقوع في أشراك وعقبات تكتيكية تمنعه من ادامة القتال على المستويين التعبوي والاستراتيجي.

 

الخلاصة الثانية: طبق الجيش الروسي ما أسماه الغربيون أسلوب (جبل الأكراد في ريف اللاذقية الشمالي) عندما اعتمد على حملات القصف الاستراتيجي في منع تقرب مسلحي جبهة النصرة والكتائب القوقازية والشيشانية والحزب الاسلامي التركستاني.

فيما طبق عدوه أسلوباً يخلط بين:

○ مدرسة الفيتكونغ (في توقيه من عمليات القصف الاستراتيجي دون التعرض لضربات ساحقة أو مدمرة).

○ أسلوب حرب العصابات البريطانية الكلاسيكي في مقاومة نقاط مؤثرة في الوحدات الروسية المتقدمة أو المتجحفلة.

○ أضاف على ذلك الاسلوب بعضاً من تكتيكات مدرسة حرب الأنصار التي قاتل بها مقاومو الاتحاد السوفياتي الاجتياح الألماني لبلادهم.

 

الخلاصة الثالثة: مع استمرار القتال وعدم الانهيار السريع للقوات الأوكرانية، بدا للروس أن المهمة ستطول وتكون أصعب فاعتمدوا سلسلة طويلة من التدابير التي تحاكي الواقع والميدان. ويبدو أن التعديلات الروسية تتعلق بالهدفين الرئيسيين لعمليتهم الخاصة في أوكرانيا:

  1. تحرير اقليم الدونباس ووصله مع كامل الشريط الساحلي الأوكراني بروسيا.
  2. تقسيم أوكرانيا إلى قسمين شرقي وغربي تحتل روسيا أو الأوكرانيون من أصول روسية القسم الشرقي وتبقي للأوكرانيين غربي البلاد دون نهر دنيبير الذي يقطع كامل أوكرانيا إلى قسمين من الشمال إلى الساحل الجنوبي والذي ستسيطر روسيا على ضفته الغربية بالكامل.

على الرغم من أن المقاتلين الأوكرانيين تمكنوا من إبطاء الغزو، إلا أن القوات الروسية تواصل تحقيق مكاسب بينما تضغط على المناطق الحضرية. تخضع العاصمة كييف، ومدينة خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، لحصار مطبق تقريباً. كما تقترب القوات الروسية من احتلال مدينة وميناء ماريوبول الاستراتيجيتين، على بحر آزوف، وتضغط من شبه جزيرة القرم عبر خيرسون وميكولاييف باتجاه مدينة أوديسا الساحلية الأخرى في أوكرانيا.

الخلاصة الرابعة: ثمة مؤشرات ظهرت الأسبوع الماضي أنه وبعدما أتخم الأوكرانيون بالأسلحة الجديدة التي زودتهم بها دول الناتو ال 15 فإنهم سيحاولون وقف تطويق المدن، بما في ذلك كييف، لمنع القوات الروسية من فرض حصار على مراكز حضرية بأكملها.

بعض المسؤولين الأوكرانيين يبالغ في التصريح إلى أنه بعد النجاة من الاجتياح الأولي، يعتزمون شن هجوم مضاد ضد القوات الروسية. وذلك مستبعد ويأتي في سياق المبالغات الأوكرانية، في حين لم يعد بمقدورهم شن هجوم مضاد كبير، وتنظيم القوات المناسبة لذلك بفعل الخسائر الكبيرة التي تلقوها. ستكون تلك محاولات غير متكافئة لفض الهجمات الروسية. إلا أنه يمكنهم اعتماد عمليات إنهاك وإيذاء كبيرة، فلدى الروس الكثير من الأهداف الثابتة أو المتوقفة بسبب مشاكلهم اللوجستية، وهذه الوضعية ملائمة جداً لقوة عمليات خاصة يمكنها أن تعمل في المؤخرة.

الخلاصة الخامسة: على الرغم من جهود الجيش الأوكراني لاستنزاف القوات الروسية، فإن الهدف الرئيسي لأوكرانيا هو جعل الحرب دموية بقدر الإمكان بالنسبة لروسيا، حيث لا يبدو أن بوتين سينسحب في أي وقت قريب. وقال الأوكرانيون بالمقابل إن التخلي عن المدن الثانوية قد يصبح ضروريًا للسماح للحكومة الأوكرانية بالبقاء في العاصمة لأطول فترة ممكنة.

 

خامساً: استنتاج

بعد ظهور حجم تورط الناتو في أوكرانيا منذ العام 2014، على أقل تقدير، يبدو أن الروس يعملون على تحقيق هدفين متوازيين عسكرياً، الأول تحقق بشكل كبير وهو تحرير إقليم الدونباس، وتقسيم أوكرانيا إلى قسمين شرقي وغربي، والثاني منعها من إنشاء أي جيش فاعل أو نظام فاعل في المستقبل، وهو ما يعني عسكرياً للروس قطع يد الناتو عن العبث بمجالهم الحيوي وأمنهم القومي.

تعتبر أوكرانيا أنها خسرت خسارات هائلة في خوضها لهذه الحرب أو بمشاركتها في استدراج روسيا لخوض هذه الحرب حيث أن معظم قدراتها العسكرية والاقتصادية ومكوناتها كدولة قد دمرت وتشرد من شعبها الملايين الذين أصبحوا بلا مأوى أو في لجوء قسري. فضلاً عن أهم مدنها وبناها التحتية وقدرتها الصناعية الأساسية في الشرق قد محيت من الوجود، وهي حرمت من واجهتها الساحلية فأصبحت دولة داخلية. لذا فإنها تقاتل من أجل عدم الخسارة العسكرية فقط والخضوع التام.

لذا فعدم الخسارة في هذه الحالة تعتبر فوزاً لأوكرانيا على قوة عظمى ويظهر من كل ما تقدم أن الاستراتيجية الأوكرانية هي عدم الخسارة، وليس الانتصار في حرب تحرير قصيرة الأمد.

 المصدر:مركز دراسات غرب اسيا

 

رایکم