۳۵۷مشاهدات
رمز الخبر: ۶۲۲۴۳
تأريخ النشر: 25 January 2022

تعتبر موجة التطبيع العلني للعلاقات بين الدول العربية والكيان الصهيوني التي بدأت رسميا في 2020 - اتفاقيات إبراهيم بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين في سبتمبر 2020، ثم الاتفاقية مع السودان في أكتوبر، وتجديد العلاقات مع المغرب في ديسمبر - مؤشرات على تغيير كبير للغاية في الديناميكيات السياسية والاستراتيجية في الشرق الأوسط. وبدت هذه الخيارات التطبيعية العلنية للعلاقات نتاج سلسلة من التحركات السياسية والدبلوماسية والاستخباراتية التي قادتها الولايات المتحدة الامريكية لمصلحة الكيان الصهيوني في مرحلة يصفها البعض بأصعب المراحل التي يمرّ بها الكيان منذ تأسيسه على ارض فلسطين المحتلة. وينبع هذا التطبيع العلني من تطابق طويل الأمد في المصالح بين "إسرائيل" والاصطفاف المحافظ للدول في العالم العربي. تماسك هذا التحالف - الذي يضم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر في عهد الرئيس السيسي والبحرين والمغرب - تم ترسيخه بعد عام 2013. وكان شاغلها الرئيسي، استجابة للديناميكيات التي أطلقتها الانتفاضات الشعبية 2010-2011، هو مواجهة التحديات الداخلية لشرعية الأنظمة وسلطتها. لطالما كان للشركاء الرئيسيين في هذه المجموعة تعاون عميق وسري مع إسرائيل فيما يتعلق بما أسموه "بالتهديد الإيراني". تطور التعاون التشغيلي الوثيق بين إسرائيل والرياض وأبو ظبي بشكل خاص في عام 2015، فيما يتعلق بحملتهم السياسية المشتركة لمواجهة موافقة إدارة أوباما على الاتفاق النووي الإيراني. وقد وجدت هذه الدول أيضًا أرضية مشتركة مع إسرائيل في مواجهة التحديات الناشئة عن تركيا والإخوان المسلمين (بما في ذلك حماس) والإسلام السياسي بشكل عام. وتنظر هذه الأنظمة المطبّعة إلى إسرائيل بشكل متزايد على أنها مصدر دعم للأمن الداخلي وتكنولوجيا المراقبة والخبرة أيضًا.

أدت الاضطرابات في الشرق الأوسط التي حفزها تفكك العراق في عام 2003، إلى دفع معظم الأنظمة العربية في المنطقة إلى التخلي إلى حد كبير عن عباءة الخطاب القومي العربي والتحدث علانية عن سعيهم لتحقيق المصالح الوطنية من خلال مشروع سلام شامل وكامل مع الكيان الصهيوني يبدأ بالاعتراف العلني ولا ينتهي بتشبيك المصالح الأمنية والاستخباراتية والاقتصادية مع هذا الكيان، وبالتالي انشاء أرضية جديدة للتفاهم مع الكيان الصهيوني ولو على حساب القضية ومصير الشعب الفلسطيني.

يعتبر باحثون من مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا (MDC) أنّ فهم حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس تبادل كبير للأراضي بين دولتين ليس من المرجح على المدى القصير إلى المتوسط​​؛ وأنّ التقسيم الفعلي لفلسطين إلى كيانين سياسيين متباينين ​​وغير مترابطين، وتجميد الديناميكيات السياسية الفلسطينية أدى إلى تهميش القضية الفلسطينية في السياسة الإقليمية. هذا التهميش، الذي يضاف إلى وجود جماهير شابة أقل انشغالًا بالروايات التاريخية، قد حرر هذه الدول ظاهريًا من النموذج الذي يجعل العلاقات الثنائية مع إسرائيل مشروطة بإحراز تقدم في القضية الفلسطينية. ومع ذلك، وكما توضح العديد من هذه المقالات، فإن رغبة القيادات في الانخراط بشكل علني مع إسرائيل لا يشاركها الجمهور ومكونات النخب الأخرى في كثير من الأحيان، وهي حقيقة تعمل ككابح للعديد من الأنظمة لفتح (أو تعميق) التطبيع.

أدى تطوران مرتبطان بالولايات المتحدة إلى خلق السياق المباشر والزخم لظهور اتفاقيات التطبيع. الأول هو التفاهم بين الحلفاء الأمريكيين الرئيسيين في المنطقة - إسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة - بأن الولايات المتحدة تسعى إلى إنهاء تدخلها العسكري المباشر المكلف في المنطقة، والذي كان قائماً منذ عشرين عاماً. ويرجع ذلك إلى الإرهاق المحلي للولايات المتحدة وعدم الرضا عن التكاليف البشرية والمادية الباهظة، ورغبتها في التركيز على كل من القضايا المحلية والتهديدات الجيوستراتيجية الأخرى. ويرجع ذلك أيضًا إلى انخفاض أهمية مصادر الطاقة في الشرق الأوسط للولايات المتحدة وحلفائها. لذلك أصبح من المهم لهذه القوى الإقليمية أن تعوض انخفاضًا في المشاركة العسكرية الأمريكية، وأن تنشئ تحالفًا إقليميًا للقوى من شأنه أن يفي جزئيًا على الأقل بالدور المتوازن الذي لعبته الولايات المتحدة خلال العشرين عامًا الماضية. والثاني هو إدارة ترامب، التي دفعت باتجاه اصطفاف إقليمي ضد إيران والتطبيع مع إسرائيل كعناصر أساسية في أجندة سياستها الخارجية، لا سيما في عامها الأخير. كما عبرت بوضوح عن عدم اهتمامها بمواصلة السياسة الأمريكية التقليدية المتمثلة في دعم حل الدولتين للقضية الفلسطينية، ومعارضة الاستيطان، والانسحابات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وكذلك ربط العلاقات الثنائية العربية مع إسرائيل بحل الدولتين. إن "الترويج الصعب" لإدارة ترامب، واستعدادها لتقديم حوافز قيمة مقابل التطبيع المفتوح من أجل ضمان قدر من النجاح في السياسة الخارجية، خلق المسرح والإطار الزمني لـ "القفزة إلى الأمام" العلنية في العلاقات العربية مع إسرائيل في الفترة الماضية.

  • جدل داخل السودان حول مسار التطبيع العلني بين السودان وإسرائيل

على عكس الدول الأخرى في المنطقة، بما في ذلك تلك التي بدأت أيضًا في إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات مع إسرائيل في العام الماضي، تاريخيا لم يكن للسودان علاقات دبلوماسية رسمية أو غير رسمية مع إسرائيل، حتى انضمت إلى اتفاقيات إبراهيم في يناير 2021. موقف السودان الأيديولوجي الرافض لسياسات الكيان الصهيوني والأكثر تعاطفًا مع القضية الفلسطينية كان واضحا منذ زمن طويل ففي ستينات القرن الماضي وتحديدا في 1967، عقدت جامعة الدول العربية قمة في الخرطوم حددت فيها "اللاءات الثلاث" التي تمحورت حول" لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل". وفي ظل نظام عمر البشير (1989-2019)، عُرف عن السودان دعمها وتنسيقها مع جماعات المقاومة في المنطقة مثل حماس وحزب الله، وكان لفترة من الوقت على علاقات وثيقة مع إيران.

في أبريل 2019، أدت ثورة شعبية، نسقها في البداية تجمع المهنيين السودانيين (SPA)، إلى سقوط البشير. بعد أن ارتكبت القوات المسلحة السودانية فظائع ضد المتظاهرين العزل، تدخل الوسطاء لترسيم صفقة تقاسم السلطة التي نصت على تشكيل حكومة انتقالية تتألف من قادة مدنيين وعسكريين، من المفترض أن تؤدي إلى انتخابات جديدة بعد ثلاث سنوات. تتمثل الأهداف الرئيسية للحكومة الانتقالية السودانية في توحيد السودان وتبني سياسة انقاذ لاقتصاد البلاد المتداع. وسيضيف "المعسكر المدني" إلى ذلك الهدف المتمثل في تحويل السودان إلى دولة ديمقراطية. من أجل جذب الاستثمار الأجنبي، بذلت الحكومة الانتقالية جهودًا كبيرة لإزالة السودان من قائمة الولايات المتحدة الراعية للإرهاب.

اللافت في سياسة الترويج للتطبيع مع الكيان، انه اعتبر مدخلا مهما او مفتاحا لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، لحثها على اسقاط تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب من القائمة الامريكية.

كان الداعم الرئيسي للتطبيع هو اللواء عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في السودان، لكن بالمقابل، يعارض المكون المدني للحكومة بشكل عام فكرة التطبيع. تعددت الآراء والمواقف في الداخل السوداني حول مسألة التطبيع من عدمه وبدا الامر معقدا وشكّل أحد أدوات الصراع الحالية بين مختلف النخب والقيادات في السودان.

بعد أن قامت تشاد المجاورة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل في نوفمبر 2018، ظهر جدل سياسي كبير في الداخل السوداني حينها حول ما إذا كان ينبغي على عمر البشير أن يحذو حذو تشاد.  دعا الداعية الإسلامي محمد هاشم الحكيم، المحسوب على جامعة القرآن الكريم ومؤسسة العلوم الى ما اسماه "المصالحة التكتيكية" مع إسرائيل، وأوضح أنه اعتبر ذلك إجراءً مؤقتًا وأن التطبيع الصريح لا يجوز. أما يوسف الكودا، رئيس حزب الوسط الإسلامي، فقد ذهب الى أبعد من ذلك، بل إنه فضل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقد برر موقفه من خلال مقارنات من التاريخ الإسلامي وأشار إلى أن مصر والأردن قاما أيضًا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. افترض كلا الزعيمين أن التقارب مع إسرائيل سيؤدي في النهاية إلى إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب الامريكية. ومع ذلك، لم تبرز اهمية هذه الأصوات إلا بعد "الثورة الشعبية في 2019."

عندما سافر البرهان إلى أوغندا للقاء نتنياهو لمناقشة إمكانية التطبيع، أكدت الصحف السودانية أنه "ذهب بمفرده"، دون إبلاغ بقية الحكومة الانتقالية السودانية. فقد أكّد زين العابدين الطيب وهو أحد قادة حركة الاحتجاج المدنية في قوى الحرية والتغيير (التي تضم تجمع المهنيين السودانيين)، أن الاجتماع غير مقبول لأن اتفاقية تقاسم السلطة التي كانت سارية المفعول لم تسمح للجيش بعمل أحادي الجانب من خلال اتخاذ قرارات حول السياسة الخارجية. وأضاف أنه "نؤمن إيمانا راسخا بعدالة القضية الفلسطينية، لكننا نؤيد التطبيع مع جميع دول العالم التي تحب السلام والديمقراطية والحرية". كما أعرب الكاتب والمحلل السوداني التقي محمد عثمان عن أن المفاوضات مثل تلك التي أجراها البرهان مع نتنياهو لا تتماشى مع روح "السودان الجديد القائم على الحرية والعدالة والمساواة. واضاف أنه لا يعترض على التطبيع مع إسرائيل "كدولة مجاورة لفلسطين".  

من هذا المنطلق لم تشكّل زيارة البرهان الى اوغندا ولقائه برئيس وزراء الكيان الصهيوني أزمة بالنسبة لهؤلاء المعلقين من حيث تفاصيلها ومحتواها وعنوانها العريض الداعي للتطبيع العلني، انما يبدو الاشكال الرئيسي في الغالب مرتبط باختبار هذا اللقاء للتوازن الهش بين المكونين المدني والعسكري للحكومة الانتقالية.

 

  • الردود على التطبيع

في أكتوبر / تشرين الأول 2020، أصبح من الواضح أن الحكومة الانتقالية كانت مستعدة للمضي قدمًا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأن الولايات المتحدة تضغط على الخرطوم للقيام بذلك كشرط أساسي لتحسين العلاقات الثنائية، وأن معظم القيادة المدنية السودانية عارضت اتفاقية السلام. وقد أعرب تجمع المهنيين السودانيين وتحالفات المعارضة السياسية السودانية مثل تحالف التوافق الوطني ونداء السودان عن تضامنهم مع الفلسطينيين. في حملة أطلق عليها حزب الأمة الوطني، وهو جزء من المجلس الوطني التأسيسي، اسم "الابتزاز غير المقبول. ورأوا أنها "صفقة رخيصة جاءت على حساب سلامة السودان ومصلحته الوطنية".وقال المعلق السوداني عبد الرحمن حنين إنه بدلاً من حصول الفلسطينيين على "الأرض مقابل السلام"، تلقى السودان "الغذاء مقابل السلام".

نزل العديد من السودانيين إلى الشوارع للاحتجاج على هذه الخطوة. ومن المثير للاهتمام أن الشكوى الرئيسية التي أعربت عنها معظم الأطراف المدنية، هي أن قرار تطبيع علاقات السودان مع إسرائيل اتخذ من قبل حكومة انتقالية، وليس حكومة منتخبة، فمن وجهة نظرهم، اتخذ الجيش قرارات مهمة دون استشارة الرأي العام، تمامًا كما فعل في عهد البشير. وبالتالي، فإن الطريقة التي تم بها تقرير التطبيع كانت تتعارض مع الروح الديمقراطية للثورة. من ناحية أخرى، رحبت بعض الأحزاب السياسية السودانية وتحالفات المتمردين بالتطبيع، على وجه التحديد لأنهم اعتبروا الصفقة تجسيدًا لروح الثورة. أكد حزب المؤتمر السوداني - وهو جزء من المجلس الوطني التأسيسي الذي عارض الصفقة - أن التطبيع من شأنه أن يحسن العلاقات الخارجية للسودان، التي دمرها النظام السابق. بعد وفاة زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، ذكر زعيم حزب الأمة الجديد أنه "ليس ضد السلام مع إسرائيل. ورأى كل من يؤيدون التطبيع أن هذه الخطوة فرصة لإخراج السودان من العزلة الدولية التي فرضها نظام عمر البشير السابق.

التداعيات السياسية والاستراتيجية للتطبيع على مستقبل السودان السياسي:

  1. تطبيع العلاقات هو لعبة خطيرة

 

بدا كل من الأمريكي والإسرائيلي يروج لفكرة أنّ حكومة سودانية موحدة بتفويض شعبي ستكون أكثر قدرة على صياغة سلام دائم مع إسرائيل، هذا ما كتبه بايتون كنوبف وجيفري فيلتمان. من هنا بدا التركيز على ضرورة احتواء التحركات الشعبية وتوجيهها بالشكل الذي يخدم العنوان المزيف المعلن دائما وهو الانتقال الديمقراطي وحرية التعبير، واعتبر الأمريكي والإسرائيلي ان المشهد في السودان بعد سقوط نظام البشير أصبح مهيئ أكثر من أي وقت مضى للمضي قدما في مسار التطبيع العلني والثابت مع الكيان الصهيوني، وأيدوا فكرة أن اتفاقًا سودانيًا إسرائيليًا متسرعًا يمكن أن يقوض المرحلة الانتقالية في السودان.

مع انضمام الإمارات العربية المتحدة والبحرين إلى مصر والأردن في إعلان السلام مع إسرائيل، فإن هؤلاء يسألون "من التالي؟" غالبًا ما ينظرون بحماس نحو المزيد من المطبعين أي نحو الخرطوم. إن إضافة فصول جديدة إلى اتفاقيات إبراهيم هو في مصلحة الولايات المتحدة أولا ولمصلحة إسرائيل التي تعيش أسوأ الحالات منذ تأسيس الكيان المحتل، فهل هو كذلك بالنسبة للسودان؟ لا نعتقد ذلك، حيث ان هذا البلد الذي كان يعدّ سلّة العالم الغذائية يعيش اليوم أسوأ حالاته بعد ان سلّطت عليه العقوبات الدولية ومشاريع التقسيم لتبديد ثرواته ونشر الفوضى في ربوعه ليبقى ارضا مهزوزة، محروقة، تفتك بها الحروب الاهلية وحركات التمرد المسلحة والمرتزقة من كل صوب وحدب. إن جاذبية السودان- التي كانت في يوم من الأيام، وحسب تقدير الإدارة الامريكية والرصد الصهيوني، في قبضة الإسلاميين ولا تزال مدرجة على قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب- تظهر في دفتر سلام إيجابي تستغله الولايات المتحدة للضغط أكثر على السودانيين الذين يواجهون أزمة وجود لكيانهم ووطنهم ليقبلوا بالسلام مع إسرائيل تحت عنوان انه الحل الأمثل والواقعي لفكّ الحصار عليهم وتحريرهم من تهمة الإرهاب الدولي. بعد الإعلان عن اتفاقيات إبراهيم بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، كانت هناك موجة من التخمين حول إمكانية تطبيع الدول العربية لعلاقاتها مع إسرائيل - ونشاط دبلوماسي للحث على مثل هذه الخطوة وتحفيزها. استمرت زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو للخرطوم في 25 أغسطس / آب2020، والرحلة اللاحقة لرئيس مجلس السيادة السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، إلى أبو ظبي في 20 سبتمبر / أيلول، في تأجيج التكهنات.

  1. انتقال ديمقراطي هش في السودان ومخاطر التطبيع:

يبدو الوضع السياسي في السودان مربكا وغير مستقر، لسوء الحظ، تجاهل الكثيرون في داخل السودان وخارجها، المخاطر التي قد يشكلها التطبيع  على مستقبل السودان كدولة أساس في القلب الافريقي والعربي، مع الإشارة الى أنّ مناصري التطبيع وعرّابي مساره الحثيث في المنطقة متخوفون أيضا من تداعيات التطبيع المبكر – في ظل ظروف سياسية مربكة وغير مستقرة-على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة، حيث يؤكد بعض المراقبين داخل الكيان الصهيوني أنه لا أحد يريد تكرار اتفاقية السلام الإسرائيلية اللبنانية لعام 1983، التي وقعتها حكومة لبنانية بدون شرعية شعبية، وانهارت في أقل من عام.

بعد خمسة أشهر من الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019 بعد 30 عامًا من الدكتاتورية، تم التوصل إلى اتفاق بشأن حكومة انتقالية بين المجلس العسكري الذي أطاح به وبين حركة الاحتجاج المدنية التي عجلت بسقوطه. استند هذا الانتقال إلى ترتيب تعايش دقيق بين أصحاب المصلحة العسكريين والمدنيين، مع مجلس السيادة، برئاسة البرهان؛ ومجلس الوزراء بقيادة رئيس الوزراء التكنوقراطي في عبد الله حمدوك. ومجلس تشريعي - ولكل منهما مجموعة محددة من المسؤوليات حتى انتخابات عام 2022.

على الرغم من الانتقادات التي وجهت لنظام البشير بانه نظام قمعي ومتسلط ومنتهك لحقوق الانسان المدنية والسياسية، ظل المجتمع المدني السوداني، بما في ذلك النقابات والجمعيات المهنية، نشطًا بشكل ملحوظ، ويبدو أنّ هذا النشاط لفت نظر الولايات المتحدة الامريكية والغرب وطبعا إسرائيل لمحاولة احتواءه والسيطرة عليه وتفعيل دوره خدمة لمسار التطبيع وتوجهاته. كان المشهد السياسي في السودان من أكثر المشاهد تنوعًا وحيوية في العالم العربي مع وجود قوى منظمة تتراوح من الشيوعيين والبعثيين إلى القوى العلمانية الليبرالية إلى مجموعة من الجماعات ذات التوجه الإسلامي. انضم العديد من هؤلاء إلى معارضة البشير لكنهم اختلفوا في رؤيتهم لما يجب أن يتبعه. لذلك تدخل الأمريكي وفرض سياسته بمطالبة الأطراف المتنازعة بأن يتم تصميم الترتيب الانتقالي لتحقيق التوازن بين هذه الفئات التي لا تعد ولا تحصى أثناء تطوير نظام دستوري جديد، ومنع انقسام البلاد والانزلاق إلى حرب أهلية، وتوفير مسار نحو الديمقراطية التي تلبي تطلعات مئات الآلاف من السودانيين. كان البشير بارعًا في التنقل بين قوى الشرق الأوسط المتنافسة، على سبيل المثال، في اختيار الأطراف في أزمة دول مجلس التعاون الخليجي. وليس من المستغرب أن المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر وتركيا سعت جميعها للتأثير في مرحلة ما بعد البشير، طبعا مع الإشارة ان كل هذه القوى هي أدوات تنفيذية للسياسات الامريكية في المنطقة. على وجه الخصوص، أدى تصور الدعم السعودي والإماراتي للمجلس العسكري ضد القوى المدنية والديمقراطية إلى رد فعل شعبي عنيف داخل السودان. كانت قطر وتركيا أقل علانية في دعمهما لأفراد أو فصائل معينة، على الرغم من أن أنقرة منحت الملاذ لعدد من كبار الشخصيات من نظام البشير.

لسوء الحظ، بعد مرور عام على الفترة الانتقالية، تفاقمت الأزمات الأمنية والاقتصادية التي كانت السبب المباشر للتظاهرات المناهضة للبشير. لا يزال الملايين نازحين. ويعاني أكثر من نصف البلاد من انعدام شديد في الأمن الغذائي. وعلى الرغم من تعهدات الدعم، فقد فشل المجتمع الدولي في تعبئة الموارد بما يتناسب مع الفرصة التاريخية للمرحلة الانتقالية. ازداد الاستياء العام من الحكومة الانتقالية، واتسعت الانقسامات ليس فقط بين الجهات الأمنية والمدنية، ولكن داخلها.

التزمت إسرائيل الصمت حيال الانقلاب العسكري في السودان، وامتنعت عن التعليق على الأحداث التي تخشى تداعياتها على مساعي التطبيع بين البلدين، فيما تواصل، وبسرية تامة، توطيد علاقاتها الأمنية والاستخباراتية مع الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يرأس المرحلة الانتقالية بالخرطوم. سبقت قرار البرهان بحل مجلس السيادة وحكومة عبد الله حمدوك، مبادرات إسرائيلية لتعزيز العلاقات والدفع نحو التطبيع مع الخرطوم وضمن اتفاقيات "أبراهام" التي بدأتها العام الماضي، بيد أن أزمة الحكم والأوضاع الداخلية والحراك الشعبي السوداني، حال دون ذلك. ورغم الصمت الرسمي، فإن ثمة من يؤكد من الباحثين والمحللين أن إسرائيل تخشى تطورات الأحداث بالسودان، إذ لا يستبعدون إمكانية أن تنعكس سلبا على مسار التطبيع، علما أن من يشرف ويتعامل مع العلاقات مع السودان في تل أبيب، وتحت غطاء من السرية، هو جهاز المخابرات (الموساد) ومجلس الأمن القومي.

 

  • خلافات البرهان وحمدوك قد تفشل مسار التطبيع وتأجله

في البداية اختارت إسرائيل مراقبة تطور الاوضاع في السودان وفضّلت حسب محلليها عدم الاندفاع نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الخرطوم بسبب أزمة الحكم والحراك الشعبي وهيمنة العسكر وغياب الدور المدني في إدارة شؤون البلاد، ووفقا للتقديرات الإسرائيلية، فإن الخلافات بين البرهان وحمدوك تسببت بتأخير تطبيع العلاقات بين البلدين. بل إن البعض في تل أبيب ينظر إلى البرهان، الذي يريد علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، على أنه "العقلاني المسؤول"، مقارنة بحمدوك، الذي لا يسعى لتعزيز العلاقات بين البلدين.

استبعد المتحدث باسم حركة "السلام الآن" في إسرائيل، آدم كلير نجاح تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والسودان. ورأى في إعلان الخرطوم، الاعتراف بإسرائيل، تحت مظلة المجلس العسكري، بمثابة التقاء مصالح بين المنظومات الأمنية والاستخباراتية، بعيدا عن موقف الشعب السوداني الذي يرفض بشكل قاطع هذا التطبيع. وأشار كلير أن إعلان التفاهمات حول تطبيع العلاقات بين تل أبيب والخرطوم، لم يحظ بالترحاب الواسع من قبل المجتمع الإسرائيلي أيضا، وكان هامشيا في المشهد السياسي الإسرائيلي، لكنه كان وسيبقى مهما للمؤسسة الأمنية. ويعتقد أن العلاقات بين إسرائيل والخرطوم، تواجه اختبارا حقيقيا أمام الحراك الشعبي السوداني الذي من شأنه، في حال نجاحه، أن يفشل التطبيع الأمني والاستخباراتي بين البلدين. وأضاف المتحدث باسم حركة "السلام الآن" أن تل أبيب عمدت إلى تبادل الوفود والبعثات الأمنية والعسكرية مع الخرطوم بسرية تامة، بعيدا عن مسار الدبلوماسية، الذي من المفروض أن يؤسس لعلاقات التطبيع بين الدول. ويرى كلير أن تل أبيب وخلافا لموقفها المتباهي والمندفع نحو تطبيع العلاقات مع دول خليجية وعربية مثلما انعكس في اتفاقيات "أبراهام"، امتنعت عن التهليل للتفاهمات والاعتراف المتبادل بين إسرائيل والسودان، "بسبب عدم استقرار الحكم بالخرطوم، والموقف المبدئي للشعب السوداني برفض التطبيع الكامل الذي يتجاوز القضية الفلسطينية".ويعتقد المتحدث أن "حالة السودان تضع إسرائيل أمام جملة تحديات، إذ تطمع تل أبيب في توظيف البعد المدني لتطبيع العلاقات، وقد فشلت بذلك في الخرطوم، وانعكس هذا في رفض قبولها عضوا مراقبا بالاتحاد الأفريقي".

في قراءة للموقف الإسرائيلي الرسمي حيال ما يحدث في السودان، تجدر الإشارة الى أن موقف تل أبيب الصامت يعكس نهجها التاريخي بالتعامل والتعاطي مع مثل هذه القضايا في العالمين العربي والإسلامي، والذي يرتكز على البُعد الأمني والاستخباراتي بعيدا عن القنوات الدبلوماسية. إن صمت إسرائيل الرسمي حيال الانقلاب العسكري بالسودان، يعكس مخاوفها من تداعيات وتطورات الأحداث التي من شأنها أن تصل إلى دول عربية وأفريقية أخرى تراهن تل أبيب على تعزيز علاقاتها والتطبيع معها.

تجدر الاشارة الى أن "إسرائيل" ترقب بصمت تطورات الأحداث بالسودان، وتخشى أن تتحول الاحتجاجات إلى عصيان مدني يرافقها عودة قوى التيارات المدنية والإسلامية للمشهد السياسي. وعليه تستعين من وراء الكواليس، بدول إقليمية للحيلولة دون عودة الإسلاميين. ويرجّح أن صمت إسرائيل وموقفها من تطبيع العلاقات رسميا مع السودان، هو مؤقت، لحين انتهاء الأحداث، إذ تخشى تل أبيب من تراجع دور البرهان والمجلس العسكري واستعادة المكوّن المدني لمقاليد الحكم". لا تتوقف محاولات تل أبيب عند ذلك، بل انها تعمل وفق خطتها على لتفكيك الدوائر الخمس التي تنضوي تحتها الدول العربية والإسلامية، ويتم التعامل معها من منظور أمني بعيدا عن العلاقات الدبلوماسية الرسمية والدليل على ذلك دور إسرائيل في ازمة سد النهضة وتحريضها لإثيوبيا على بناء سد النهضة رغم اتفاقية السلام بين تل أبيب والقاهرة.

لا نعتقد ان تتراجع إسرائيل عن التطبيع مع السودان، بل ستبقي عليه ضمن الدوائر الأمنية والعسكرية، فقد عايشت اسرائيل هواجس الربيع العربي، والتزمت الصمت حتى تم إجهاض الثورات عسكريا أو بالقوة الناعمة، لكنها تعي أن الشعوب العربية -وإن قمعت- لا تهزم وتعود مجددا للحراك الشعبي.

يظهر الجدل المفتوح حول التطبيع مع إسرائيل الذي دار في الصحف السودانية أن ثورة 2019 السودانية مهدت الطريق لمزيد من حرية التعبير وفقا للرغبة الامريكية والإسرائيلية على حد سواء، ومع ذلك، من الصعب قياس إلى أي مدى تعكس الآراء المنشورة في الصحف السودانية الخطاب "في الشارع". بالإضافة إلى ذلك، لا يزال المجتمع المدني الديناميكي في السودان هشًا، وبالتالي لن يكون رافدا حقيقيا للأهداف الامريكية في خدمة مسار التطبيع والمصالح الامريكية. اليوم، وفي خضمّ الازمة السياسية والصراع الدائر بين العسكريين والمدنيين على السلطة، لا يزال الأمريكي يعمل جاهدا على احتواء السلطة المدنية وتوجيهها لتذهب باتجاه تفعيل مسار التطبيع الموقع من قبل العسكر ولتوسيع سلطة نفوذ ادواته على الساحة السودانية والامساك بزمام المبادرة في رسم مستقبل السودان وابعاده عن أي احتمال لعودته لمسار المواجهة وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني. لذلك يصرّ الأمريكي على فكرة تعزيز وتقوية حرية التعبير في السودان حتى تصبح المؤسسات المدنية -المدعومة أمريكيا- هي السلطة الفاعلة الأساسية ان لم تكن الوحيدة، نظرا لعدم ثقة الإدارة الامريكية في العسكر-على الرغم من ان الطرف الذي وقع الاتفاق مع الإسرائيلي هو عسكري بالأساس-.

من هذا المنطلق تكمن الخطورة في أنّ العديد من المواقف والآراء المربكة حول اهداف التطبيع مع الكيان الصهيوني وتداعياته غير واضحة بالنسبة للرأي العام السوداني. اذ يسعى المؤيدون للتطبيع والمستفيدون منه سياسيا الى تجميل الصورة للرأي العام والتركيز فقط على انه مسار جدي سيساعد السودان على الخروج من أزمته السياسية والاقتصادية، يكفي انه سيكون سببا في نظرهم ووسيلة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة كما يعتقدون. قد تكون هذه أسبابًا لكون وتيرة التطبيع بين السودان وإسرائيل هي أبطأ بكثير من وتيرة الدول المطبعة الأخرى في المنطقة. وبينما فتح التقارب مع إسرائيل الباب لإزالة السودان من قائمة الولايات المتحدة الراعية للإرهاب، فإن التحديات الرئيسية للحكومة الانتقالية لا تزال قائمة: حيث يطرح الاشكال هنا هل ان التطبيع قادر على تحويل هذه الفرصة إلى تغيير حقيقي للاقتصاد السوداني، مع استمرار الاحتجاجات، وتوحيد الشعب السوداني، بينما لا يزال العنف في العديد من المناطق جزءًا من الحياة اليومية.

رایکم
آخرالاخبار