كما كان متوقعا، صوت مجلس الشيوخ في الكونغرس الاميركي ضد قرار اتهام الرئيس دونالد ترامب وتبرئته في ما يعرف بالقضية الاوكرانية. لكن توقع تبرئة ترامب التي يدين بها لزعيم الاغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ "ميتش ماكونيل" وداعمه الاول "ليندسي غراهام" لا يعني ان كل شيء انتهى، فلتوجيه الاتهام لترامب رسميا وللمحاكمة بكل تفاصيلها ومجرياتها تبعات ستظهر تباعا خلال الاشهر المتبقية حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
اولا
لم يكن ترامب يخاف من ادانته في الكونغرس وعزله بشكل يقضي على حياته السياسية قبل عام من نهاية ولايته الاولى. لكنه ووفقا للتقارير والتسريبات كان يخشى من انكشاف كثير من الاسرار المتعلقة بعمل البيت الابيض وتعاطيه مع قضايا دولية قد تقلب الطاولة عليه لاسيما في الشارع. وعلى هذا الاساس اتى اجبار الادارة الاميركي للموظفين فيها المعنيين بالقضية على عدم الادلاء بافاداتهم في المحاكمة.
ثانيا
لم تكن المحاكمة مبنية على دوافع دستورية قانونية خالصة اقله بالنسبة للحزبين. فبغض النظر عن الوقائع التي تدين ترامب بسوء استخدام السلطة، الا ان الديمقراطيين قرروا اطلاق محاكمته لاسباب خاصة تتعلق بالانتخابات في المقام الاول. والجمهوريون دافعوا عنه لعدم شرذمة حزبهم قبل الانتخابات.
ثالثا
كان واضحا منذ البداية ان الجمهوريين مستعدون لتجاوز الاصول القانونية والدستورية في سبيل حماية ترامب. وهو ما اشار اليه ماكونيل بالقول انه ينسق مع البيت الابيض لانهاء المحاكمة في وقت سريع بما يسمح لترامب بالتفرغ لحملته الانتخابية. وهو ما تاكد لاحقا حين وصلت القضية الى مجلس الشيوخ حيث منع ماكونيل الديمقراطيين من استدعاء شهود جدد من شبه المؤكد انهم كانوا سيغيرون الكثير في مسار المحاكمة.
اما بعد تبرئة ترامب، هل يمكن للرئيس الاميركي الادعاء بان كل شيء انتهى؟ وهل انتصر الجمهوريون على الديمقراطيين؟
كانت تدرك زعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب نانسي بيلوسي ان محاكمة ترامب لن تفضي الى ما تحلم به اي عزله. لكن موافقتها على اطلاق المحاكمة جاءت عن اقتناع بان المحاكمة يتحقق مكاسب للديمقراطيين.
فهي اولا ستلحق بترامب صورة الرئيس الذي خضع للمحاكمة وتمت تبرئته فيها ليس لانه لم ينتهك الدستور بل لان الجمهوريين غطوا انتهاكاته. وهنا ياتي المكسب الاخر المتمثل باظهار الجمهوريين بصورة المدافع عن مصالحهم الخاصة وليس المصالح الوطنية الاميركية.
اما المكسب الاخر فهو فرض قضية المحاكمة وكل ما يتعلق بها مادة حاضرة وستحضر بقوة في الحملات الانتخابية والجدل الانتخابي المقبل. وبالتالي فان الشارع سيبقى مضطرا للتعاطي معها طوال الاشهر التسعة المقبلة قبل الانتخابات الرئاسية، وبطبيعة الحال ستفرض القضية نفسها على خيارات الناخبين في تشرين الثاني نوفمبر المقبل.
اضافة لكل ذلك، يمكن القول ان الديمقراطيين ما زالوا يملكون اوراقا مهمة سيلعبونها في الاشهر المقبلة لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات. واهم هذه الاوراق الشهود الذين كان من المفترض ان يدلوا بافاداتهم امام مجلس الشيوخ. وابرز هؤلاء مستشار الامن القومي السابق جون بولتون، والشاهد الملك في القضية الاوكرانية "ليف بارناس". وبولتون وبارناس يعلمان الكثير بحيث يمكنهما قلب الطاولة على ترامب والجمهوريين في حال تم استخدام افاداتهما في المكان والشكل الصحيحين.
امر اخر ملفت تجدر الاشارة اليه، ويتعلق بالانتخابات. وهنا لا بد من القول ان كل ما حصل منذ اعلان مجلس النواب فتح تحقيق لمحاكمة ترامب حتى تبرئته، كان هدفه صناديق الاقتراع. وفي هذا الخصوص يبرز موضوع تصويت السيناتور الجمهوري "ميت رومني" لصالح عزل ترامب. موضوع له دلالات عدة ابرزها ان رومني اصبح اول سيناتور يصوت لعزل رئيس من حزبه في تاريخ الولايات المتحدة. وفي ذلك اشارات على الوضع الحرج لترامب. كما ان موقف رومني قد يساهم في تغيير المزاج العام في ولايته "يوتاه" التي تعتبر ولاية جمهورية تقليدية لكن ما قد يحصل هو تغير الوجهة للتصويت للمرشح الديمقراطي في الانتخابات المقبلة.
وعليه فان ما يحصل يشير بوضوح الى ان الامر لم ينته بل وعلى العكس بدا الان. فالان بدات معركة الديمقراطيين لاستغلال المحاكمة لاستقطاب الناخبين، كما بدات معركة الجمهوريين لتفادي دفع ثمن باهظ لدعمهم ترامب رغم اقتناعهم بانتهاكه للدستور، وبدات معركة ترامب نفسه لتجنب خسارته الانتخابات المقبلة في مواجهة الحملة الديمقراطية ضده والتي تقودها المراة القوية على الساحة السياسية الاميركية نانسي بيلوسي.