يحذر باحث إسرائيلي بارز من احتمال تحطم العلاقات التاريخية بين إسرائيل والأردن على خلفية عودة خطاب “الوطن البديل”، وذلك ضمن محاضرة له حول خبايا العلاقات السرية والعلنية بين الطرفين من قبل 1948 حتى اليوم.
وتحت عنوان “علاقات إسرائيل – الأردن في السر والعلانية في 1967-1948″، نظم معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب ندوة بمناسبة 25 سنة على توقيع اتفاق وادي عربة، استعرض فيها الباحث في الشأن الأردني بروفسور آشر ساسر مسيرة العلاقات بين دولة الاحتلال وبين المملكة الأردنية الهاشمية.
وأوضح هو الآخر أن الجانبين الأردني والإسرائيلي نسجا علاقات سرية قبل نكبة 1948 وتحادثا حول التقسيم والضم، منوها إلى أن هذه الاتصالات تكثفت غداة قرار التقسيم الأممي في 1947. ويشير للقاء بين العاهل الأردني الراحل الملك عبد الله وبين غولدا مائير رئيسة حكومة إسرائيل لاحقا، في لقاء سري تم في منطقة الباقورة جنوب بحيرة طبرية.
لقاء غولدا مئير والملك عبد الله
ونقل عن الملك عبد الله الثاني قوله لغولدا مائير قوله: “أريد أن أكون راكبا لا مركوبا في موضوع فلسطين”. وقال إن الجانب الإسرائيلي وقتها كان هو الآخر معني بتبني موقف الأردن وبغلبته على الفلسطينيين، لافتا إلى أن غولدا مائير وعبد الله اتفقا على منع نشوب حرب بينهما ومع ذلك فقد حصلت عام 1948.
ويضيف: “رغم أن التفاهم المذكور لم يصمد لكن النتيجة كانت بروح ذاك التفاهم إذ تم ضم الضفة الغربية للأردن نتيجة واقع الحال وقد تفاهما على فكرة احتواء قضية فلسطين. في العقد الأول بعد قيام إسرائيل جرت اتصالات سرية بين الأردن وبين إسرائيل لكن الملك عبد الله قتل بنهاية المطاف داخل المسجد الأقصى نتيجة لهذه الاتصالات. وقتها جرت اتصالات عقب اتفاق وقف إطلاق النار ولكن السلام لم يتحقق لعدة أسباب منها اللاجئون الفلسطينيون والضغط العربي الذي مورس على الأردن كي لا يقوم به، وكذلك لأن عبد الله كان قد تقدم في السن ولم يعد هو سيد نفسه تماما داخل المملكة ففشلت مداولات السلام قبيل اغتيال الملك عبد الله في القدس. وحتى المسؤولين الأردنيين ممن شاركوا في المفاوضات تحفظوا من فكرة السلام ورفضوا توقيع أسمائهم على أوراق المفاوضات كي لا يرتبطوا بها”.
في المقابل يقول ساسر إنه ومع ذلك اتفقت إسرائيل والأردن لاحقا على استمرار الوضع الراهن. ويضيف: “ولكن خلال تلك الفترة ساورت إسرائيل شكوك حول مستقبل الأردن فقد قال رئيس حكومة إسرائيل الأول دافيد بن غوريون وقتها إن المملكة الأردنية ليست مستقرة وطبيعية، وإن هناك رجلا واحدا فيها يمكن أن يموت في كل لحظة وهو مرتبط ببريطانيا”.
حرب السويس
أما وزير الخارجية وقتها موشيه شاريت فقال إنه “غير واثق بأن الأردن لاعب مستقر للمدى البعيد ومن شأنه أن يبتلع من قبل سوريا أو العراق”. ويشير ساسرإلى أن بن غوريون بادر خلال حرب السويس عام 1956 للقاء السفير الفرنسي في تل أبيب واقترح عليه تقاسم إسرائيل والعراق ضفتي الأردن الغربية والشرقية، مؤكدا أن التحول في النظرة للأردن جاء عقب 1958 ونتيجة تطورين.
ويتابع: “شهد ذاك العام تطوران أقنعا إسرائيل بأن استقرار الأردن مصلحة عليا إسرائيلية هما تشكيل الجمهورية العربية المتحدة التي شكلت تهديدا على إسرائيل وسقوط النظام الهاشمي في العراق”. وقال إن “العالم العربي بدا وقتها وكأنه سقط بيد جمال عبد الناصر كـثمرة ناضجة وهذا كان بالنسبة لإسرائيل كابوسا. وفي إسرائيل تبلورت وقذاك تقديرات جديدة حيال التعامل مع الأردن كـجزء من التحالف المعادي للناصرية”. وكشف ساسر أنه خلال الأزمة التي شهدها الأردن عام 1958 سارعت بريطانيا لتقديم المساعدات له بطائرات حلقت في سماء إسرائيل وبموافقتها حملت معدات وحتى وقودا.
استقرار الأردن مصلحة عليا لـإسرائيل
وقال إنه بدا واضحا أن الولايات المتحدة وبريطانيا قد فهمتها أن إسرائيل ستتحرك عسكريا بحال سقط النظام الأردني أو بحال دفع قوات عربية غريبة للضفة الغربية، لافتا إلى أن الأردن كان واعيا لهذا التحول في الرؤية الإسرائيلية.
ويضيف الباحث الإسرائيلي: “في أغسطس/آب 1960 بادر مبعوثون من الجمهورية العربية المتحدة وبالتحديد من المخابرات الإسرائيلية لمكتب رئيس حكومة الأردن هزاع المجالي واغتالوه، واستشاط العاهل الأردني الراحل الملك حسين غضبا وفكر بمهاجمة سوريا عسكريا. ربما يبدو الأمر غير معقول اليوم ولكن وقتها كانت موازين القوى لصالح الأردن في ظل ضعف الجيش السوري نتيجة قلاقل كثيرة”.
كما كشف ساسر استنادا لأرشيفات إسرائيلية أن “الملك حسين أرسل مبعوثا التقى رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية حاييم هرتسوغ ومعه رسالة مفادها أنه عازم على مهاجمة سوريا ولذلك سيسحب قواته من الحدود مع إسرائيل طالبا عدم استغلال ذلك لمغامرات سلبية”. وقد استجاب بن غوريون وأوضح أن لإسرائيل مصلحة عليا في صيانة الاستقرار في الأردن وقد رد الملك بالمثل معتبرا أن أمن واستقرار إسرائيل مصلحة أردنية عليا.
ويضيف: “لكن بنفس الوقت كانت لدى الولايات المتحدة وبريطانيا تقديرات مغايرة ومتشائمة حيال الأردن قوامها أن المملكة الأردنية لن تصمد لأن الناصرية قوة صاعدة وحتمية وأنه لا خيار إلا التصالح معها؛ لأنه لا يمكن الانتصار عليها وأنها هي مستقبل الشرق الأوسط”. وأوضح ساسر أن “هذه التقديرات ترتب عليها توصيات بتقليص المساعدات الأمريكية للأردن لعدم وجود جدوى بالرهان عليه في ظل عدم وجود مستقبل له”. وكشف ساسر أن إسرائيل تدخلت على الفور وسجلت معارضتها الشديدة لهذه التقديرات الغربية وأكدت قرارها باحتلال الضفة الغربية أو جزء منها بحال سقوط النظام الأردني.
تهديد أمريكي لعبد الناصر
ويشير إلى أن الدول العظمى الغربية فعلا أدركت أنه من أجل حماية السلام في المنطقة لا يمكن السماح بسقوط الأردن ويضيف: “في أبريل/نيسان 1963 شهدت المملكة الأردنية مظاهرات وقلاقل وشكل الفلسطينيون فيها ذراعا بيد عبد الناصر ضدها، وفي تلك الفترة احتل البعث الحكم في سوريا والعراق وبدأت مداولات لوحدتهما مع مصر وخرجت الجماهير تطالب العاهل الأردني بالانضمام للوحدة. وفي ظل الاشتباكات داخل المملكة دفعت إسرائيل قوات للحدود، وقدرت الولايات المتحدة وبريطانيا أن إسرائيل ستتدخل عسكريا ولذا سارع السفير الأمريكي في القاهرة للقاء عبد الناصر وحذره من حرب ستنشب إذا ما استمر بعمله الكيدي ضد الملك حسين وستحتل إسرائيل الضفة الغربية ولا أحد يعرف لأي فترة”.
ويقول ساسر إن الأردن نجا من الأزمة الخطيرة، ولاحقا استقال بن غوريون واستبدل بليفي أشكول في رئاسة الحكومة الذي أبدى تعاملا إيجابيا جدا حيال الأردن، وعلى هذه الخلفية ومقابل صعود منظمة التحرير الفلسطينية تجددت الاتصالات السرية بين الأردن وبين إسرائيل. ويشير إلى أن “اللقاء الأول في تلك المرحلة تم في سبتمبر/أيلول 1963 في لندن بواسطة عامنوئيل هاربيت (يهودي بريطاني صهيوني طبيب خاص للملك حسين). وبعد عام عقد اجتماع آخر في باريس جمع الملك حسين بـغولدا مائير وتداولا موضوع تقاسم المياه وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وسلمت غولدا الملك الأردني معلومات عن “مجرمين” في مملكته ويعملون ضده وهو من طرفه ثمنّ وقدر ذلك كثيرا”.
صعود العمليات الفدائية
ويقول ساسر شاكيا إن الأمور لم تستكمل كما يجب لاحقا فالعمليات الفدائية في الأغوار شوشت الصورة، واستذكر عملية انفجار لغم بالقرب من مدينة عراد في النقب تسبب بقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، مما دفع إسرائيل للقيام بعملية دموية هي الأخطر حتى الآن في إشارة لـمذبحة السموع في منطقة الخليل، لافتا لاجتياح كتيبة إسرائيلية لتلك القرية الفلسطينية وقتل عدد كبير من المدنيين والجنود الأردنيين بعد تفجير 41 بيتا على من فيها.
ويتابع: “فهم الملك حسين هذه المرة ما هو مناف للتفاهمات السرية، بل فهم ما لم تنويه إسرائيل وكأنها تستعد لاحتلال الضفة الغربية في أول فرصة”. ويوضح سار أنه من المهم ذكر ذلك من أجل فهم سر انضمام الملك حسين لسوريا ومصر في حرب 1967، ويتابع: “في الخامس من يونيو/حزيران أرسل أشكول رسالة سرية للملك حسين بواسطة مراقبي الأمم المتحدة في القدس مفادها أن هناك حربا مع مصر وسوريا وبحال ظل الأردن خارجها فلن تهاجمه إسرائيل”.
وبلهجة شاكية يقول ساسر إن الرسالة هذه كانت متأخرة جدا حيث كانت المدافع قد بدأت تقصف، مشيرا أيضا إلى أن الجبهة الأردنية لم تكن تحت إمرة الأردن بل تخضع لتعليمات الجنرال عبد المنعم رياض. وأوضح أن الملك حسين وافق على سيطرة عبد المنعم رياض الذي تحرك لخدمة مصالح مصر لا الأردن، لكن الملك حسين لم يكن صاحب قرار هنا، علما أنه لم يصدق رسالة أشكول وقدر أن إسرائيل ستهاجمه بكل الأحوال بصرف النظر عن موقفه ولذا من المفضل أن يشارك بالحرب.
خيبة أمل إستراتيجية
وبشأن الوضع الراهن المأزوم بين الأردن وبين إسرائيل، يعتقد ساسر أن الواقع الذي تشكل غداة 1948 انهار بعدة ساعات في 1967، ويقول إنه “منذ ذاك العام أخذ تفاهمها حول الاحتواء المشترك لفلسطين يتدهور”. ويشير لظهور قوى جديدة في إسرائيل رفضت العودة للوضع السابق وهي ترفض فكرة تسوية الدولتين، ويضيف: “تأخذ بالتبلور معتقدات في إسرائيل بالسنوات الأخيرة أن الأردن هو فلسطين وهو الوطن البديل للفلسطينيين، وهذا أخطر تهديد بالنسبة للملكة الهاشمية كما تراه هي”.
ويتابع: “بعد توقيع اتفاق وادي عربة في 1994 قال الأردن إن “الوطن البديل” انتهى في ظل تفاهمات مع إسرائيل حول قيام دولة فلسطينية لجانب الأردن، ومن وقتها مرت 25 سنة والدولة الفلسطينية لم تقم ولا يبدو في الأفق أنها ستقوم”.
ويخلص الباحث الإسرائيلي للقول إنه “من ناحية الأردن وفي الواقع القائم فإن السلام صار يصبح خيبة أمل إستراتيجية، ومن لا يرى ذلك فهو يهدد السلام بين إسرائيل وبين الأردن وهذا سيلحق ضررا بهما”.