شبکة تابناک الأخبارية: على صفحة كاملة، ومن أجرأ ما قرأت خلال العام الأخير، فتح قينان الغامدي بالأمس كل الأسئلة المشرعة في وجه التقية السياسية لمشروع حركة الإخوان المسلمين في الخليج، وفي السعودية تحديداً؛ بوصفها الكعكة الأغلى الأعلى في تاريخ هذه الحركة.
سأبدأ مباشرة من حيث ترك قينان الغامدي نهاية أسئلته المشرعة. من المعقل ومن البذرة التي نمت تحت (التوقيع) وتحت السمع والبصر. في مدخل سبعينات القرن الماضي كان نجم (النجم) الإخواني، كمال الهلباوي، يصعد مخترقاً فضاءات رموز الحركة الكبار، ومثيراً بوهجه وأدواته الفكرية على مأمون الهضيبي وعمر التلمساني، وكان بلا جدال، أبرز الأسماء التي تحتاجها تلك المرحلة للكرسي الأعلى في منصب مرشد الحركة.
وفجأة، وخارج السائد المألوف تكتشف انتقال كمال الهلباوي إلى الرياض مغروساً في قلب نظام التربية والتعليم مستشاراً أساسياً لبناء المناهج المدرسية، وعضواً باللجنة الصغيرة الخاصة بانتداب واختيار كوادر التعليم الإدارية في مفاصل الوزارة ومناطق اختصاصها الجغرافية المختلفة.
لجنة كمال الهلباوي هي نفسها من وضعت في نهاية ذات السبعينات خرائط النشاط المدرسي بما فيها المعسكرات الطلابية والأندية الصيفية ونواة برامج الحركة الكشفية التابعة لوزارة (المعارف)، وفي تلك اللحظة من الزمن أكمل كمال الهلباوي سيطرة الفكرة الإخوانية على أهم مفصلين في التعليم: بناء المناهج ورسم الأنشطة.
كان لابد أن ينتقل إلى مخططات المشروع الأعلى ليكون الاختراق الضخم حين تكتشف أن كمال الهلباوي كان العضو الرئيس المؤسس في القائمتين: هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية والندوة العالمية للشباب الإسلامي، بوصف هذين (الجسدين) ذراعاً مالياً مرناً وعملاقاً تحتاج حركة الإخوان المسلمين أن تزرعه في قلب المنجم المالي الذهبي للملايين السائلة التي تحتاجها هذه الحركة. كل هذه السيرة الذاتية لم تكن كشفاً (مصادرياً) بل جملا مكتوبة بخط كمال الهلباوي نفسه على سيرته الذاتية، ولك أن تقرأها كما هي بضغطة إلكترونية.
وفي زمن لاحق، وتقديراً لدوره الضخم، رأت الحركة أن تنقله إلى مسؤولية أعلى ليكون باسم المنصب (رئيساً للتنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين). هنا تتساءل عن هذه القدرة الخلاقة في تنظيم الأدوار من أجل أهداف الاختراق. كيف تحول المرشد الصاعد بأضوائه الخارقة إلى مجرد موظف في مكان آخر بعيد هو الهدف التلقائي؟ والجواب أن الحركة نفسها بندب كمال الهلباوي عملت بمرشدين. معلن وخفي.
تبدأ النقطة الجوهرية الفاصلة للاختراق الحركي للإخوان المسلمين في البنية الفكرية في السعودية بالتحديد مع مخرجات الطفرة الأولى نهاية السبعينات. شهدت تلك المرحلة توسعاً نوعياً وكمياً في بنية التعليم الجامعي، وهو ما خلق فرصة هائلة لأن تتنفس الحركة في فضاء جديد مفتوح تخرج به من عنق الزجاجة في بلدانها الأصل وخصوصاً مصر وسورية. ذروة الخروج إلى الفضاء الجديد جاءت بعد مجزرة حماة الوحشية البشعة، وبعيد حملات التضييق الواسعة فيما عرف باسم تطهير (مراكز القوى) في زمن السادات.
جاءت هذه الحركة بكثافة إلى مجتمع بريء لم يكن في حساباته الظن بأن في (الدين) عشرات الفصائل المختلفة التي تشرذمه إلى غطاءاتها وأجنداتها السياسية. احتاجت الطفرة في جسد التعليم الجامعي إلى آلاف الخبراء والأساتذة، وبالطبع، كان الوقود التلقائي لابد أن يأتي من ذات المنجم، وخذ هذين المثالين: التوسع المحلي الهائل في كليات التعليم الديني لم يكن إلا مزيجاً لتدريس كتب وأدبيات رموز حركة الإخوان المسلمين.
هنا حدثت أول حالة (انفصام) فكرية لآلاف الطلاب الذين يقفون بأرجلهم على منهج بينما تتربى عقولهم على المنهج الجديد الوافد. مزيج المدرستين أنتج حالة مدرسية ثالثة تجمع ما بين النقاء السلفي وبين منهج الإخوان الذي يحول الدين إلى حركية سياسية خالصة. هنا تقف السرورية كمثال على هذا المخاض بآلاف الأتباع النافذين القارئين من كتب الإخوان ولكن في الوعاء السلفي. تأمل مجرد الأسماء فيما عرف لاحقاً برموز الصحوة التي تستطيع أن تقرأها ولو في مجرد الغالبية من موقعي البيانات المتتالية لتتكشف أنهم في الأغلب من طلاب تلك الفترة.
ستقرأ أيضاً أن الصفة المشتركة فيما بين هذه الأسماء المؤثرة، وبالمئات، هي الجمع ما بين الذهنية الحركية الإخوانية، وبين العقل الفقهي السلفي المحافظ جداً. هذا المزيج المختلط من الهندسة الوراثية الجديدة هو أعظم مكاسب الحركة في تاريخها بأكمله، لأنه كان المفتاح إلى كعكة التمويل المالية الهائلة.
هنا سقط التعليم الجامعي المحلي في باحة عقل واحد بنصفين: سلفي إخواني في ذات الجمجمة. ستكتشف أن هذه الثمرة الجديدة المهجنة باقتسام البذرة ما بين مدرستين تحمل رؤية قاسية من التشكيك والريبة في كل شيء ثم ترميه بتهم الردة والفسوق: للمجتمع التي ترى أنه فقد ثوابت تربيته، للإعلام والتعليم والمناهج والمرأة وحتى المسؤول، مروراً بالنخبة والمفكر والمثقف. ستكتشف أن الثمرة الوليدة نمت نسخة بالكربون كما يقول (كتالوج) الحركة.