
يُعتبر مخيم الهول في شمال شرق سوريا اليوم من أكثر الأماكن تعقيدًا وخطورة في المنطقة؛ حيث يعيش فيه آلاف النساء والأطفال المنتمين إلى داعش، وقد وفرت بيئته غير المستقرة والمهجورة ظروفًا مثالية لتكاثر الأفكار المتطرفة وتكوين جيل جديد من هذه الجماعة.
الهول، الذي كان في البداية مجرد مأوى مؤقت للاجئي الحرب، أصبح عمليًا "خلافة صغيرة" نتيجة تطورات السنوات الأخيرة؛ حيث يتكاثر فيه فكر داعش باستمرار، ويستوعبه بسهولة الأطفال الذين لا يذهبون إلى المدرسة ولا يملكون هوية ولا مستقبلًا.
هذا المخيم، الذي يضم الآن أكثر من 50 ألف شخص، لا يُمثل تحديًا إنسانيًا وأخلاقيًا فحسب، بل يُمثل أيضًا تهديدًا استراتيجيًا لأمن سوريا والعراق وحتى أوروبا. يعتقد العديد من المحللين الأمنيين أنه إذا استعاد داعش السلطة، فلن تكون نقطة انطلاق هذه العودة الصحاري السورية، بل هذا المخيم نفسه، حيث تستمر الأيديولوجية المتطرفة في الازدهار في ظل فراغ أمني ولامبالاة عالمية.
من ملجأ لضحايا الحرب إلى أرض خصبة للتطرف
يقع مخيم الهول على بُعد حوالي 45 كيلومترًا شرق محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، وقد ازداد عدد سكانه من بضع مئات عند إنشائه (2016) إلى أكثر من 50 ألفًا خلال سنوات حكم داعش.
على بُعد 136 كيلومترًا من الهول يقع "مخيم روج"، الذي يبدو للوهلة الأولى كغيره من مخيمات اللاجئين والنازحين، ولكن بعد الوصول إلى البوابة الرئيسية، يتضح الفرق؛ جدران عالية، كاميرات مراقبة، ومئات الخيام المكتظة التي سيطر عليها الإرهابيون وزوجاتهم وبعض قادة التنظيم.
بينما تبحث بعض النساء عن مخرج، لا تزال أخريات متمسكات بالمعتقدات التي أوصلتهن إلى مناطق سيطرة داعش، وأصبحت هذه المخيمات محطات انتظار لا أحد يعلم متى سيُفرج عنهن.
في بداية العقد الماضي، كان مخيم الهول مخيمًا للعائلات النازحة فقط؛ ولكن بين عامي 2017 و2019، بعد سقوط ما يُسمى بخلافة داعش، نُقلت إليه آلاف النساء والأطفال المنتمين للتنظيم من مناطق مختلفة في سوريا والعراق. من بينهم عدد كبير من مواطنات دول أخرى؛ نساء جئن إلى "الخلافة المزعومة" مع أزواجهن وتركن في المخيم بعد انهياره.
بمرور الوقت، أصبحت أجزاء من المخيم، وخاصةً الجزء الذي تسكنه العائلات الأجنبية، خارجة تمامًا عن سيطرة قوات الأمن، وأصبحت منطقة تخضع فيها نساء داعش المتعصبات لقوانين ومحاكم تعسفية، وشبكات عقاب، وحلقات تدريب ديني، واتصالات سرية. وفي كثير من الحالات، يتعرض من يرفضن اتباع قواعدهم للضرب المبرح أو حتى القتل.
عنف داخلي، هروب منظم، وتسلل سري لداعش
خلال العام الماضي، أظهرت حوادث عديدة هشاشة البنية الأمنية للمخيم أكثر من أي وقت مضى. أُحبطت عملية هروب لعشرات النساء المنتميات لداعش؛ وشُنت هجمات على موظفي منظمات دولية؛ وأُضرمت النيران في بعض المدارس المؤقتة، ووردت تقارير عن إدخال متفجرات وأسلحة بيضاء. هذه الحوادث ليست سوى مظهر سطحي للأزمة التي تعصف بالمخيم. نساء داعش:
يُقمن دروسًا دينية إلزامية للأطفال.
أنشأن شبكات لجمع التبرعات من خارج سوريا.
أنشأن هيكلًا شبه حكومي في ظل غياب الرقابة.
يُدربن الأطفال ليصبحوا الجيل الثاني من المقاتلين.
يُحرم الأطفال الذين ينشؤون في الهول اليوم من أي مشاركة تُذكر من العالم الخارجي؛ فهم لا يتمتعون بنظام تعليمي رسمي، ولا إرشاد نفسي، ولا إمكانية للمغادرة، ولا حتى بهوية قانونية تضمن لهم مستقبلًا. هذا الحرمان الواسع النطاق حوّلهم إلى أرض خصبة للتطرف.
عودة داعش في ظل الفراغ الأمني في العراق وسوريا
على الرغم من تعرض داعش لضربات موجعة منذ عام 2019، إلا أن علامات عودته البطيئة في كل من سوريا والعراق واضحة للعيان. خلال العام الماضي:
تضاعفت هجمات داعش في مناطق مختلفة من العراق ثلاث مرات.
أُعيد تنشيط خلايا داعش النائمة في سوريا.
تمكن بعض كبار قادة التنظيم من تشكيل شبكات صغيرة لكنها نشطة.
لم يُوجه مقتل قادة مثل ضياء زوبع الحرداني سوى ضربة مؤقتة لداعش، ولم يمنعه من إعادة بناء هياكله.
في الوقت نفسه، يُمثل مخيم الهول قاعدة إنسانية وأيديولوجية لداعش؛ ونقطة انطلاق لتلقي نواة التنظيم الصلبة تغذية فكرية وإنسانية.
منعطف دبلوماسي؛ من عزلة دمشق إلى ضرورة التعاون الأمني
دفعت التطورات المتعلقة بمخيم الهول بعض الدول التي قطعت علاقاتها السياسية مع دمشق لسنوات إلى الاعتراف الآن بضرورة التعاون مع الحكومة السورية في مواجهة تهديد داعش. كانت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية البريطاني إلى دمشق، بعد سنوات طويلة، وطرحه مسألة "تهديد الهول" في المحادثات الرسمية دليلاً واضحاً على هذا التغيير.
يُظهر هذا التحول السياسي بلا شك أن التهديد الذي تُشكله عشرات الآلاف من النساء والأطفال المتطرفين في الهول قد وصل الآن إلى مستوى لا يُمكن تجاهله بالسياسات القديمة. كما توصل الغرب تدريجياً إلى استنتاج مفاده أن حل أزمة الهول يكاد يكون مستحيلاً دون مشاركة فعّالة من دمشق، أو على الأقل بالتنسيق الأمني معها.
القمة العالمية حول الهول؛ توافق سياسي دون حل تنفيذي
في قمة عُقدت مؤخراً للأمم المتحدة، أعربت عشرات الدول عن قلقها إزاء الوضع الإنساني والأمني في الهول. ومع ذلك، فإن التوافق السياسي لا يعني وجود حل تنفيذي. لا تزال الدول الغربية غير راغبة في إعادة مواطنيها من داعش؛ وقد أجّلت الدول الآسيوية هذه القضية إلى مستقبل مجهول؛ والدولة الوحيدة التي لديها خطة منهجية لإعادة مواطنيها هي العراق. هذا الغموض الدولي يضع مئات الأطفال والمراهقين فعلياً على مسار يتزامن تقريباً مع الانغماس في أيديولوجية داعش.
خاتمة
مخيم الهول ليس مجرد مخيم أزمة، بل هو بؤرة خطيرة لتكاثر داعش. لم يتوصل العالم بعد إلى حل عملي لهذا التحدي، والوقت يمضي بسرعة ضد أمن المنطقة والعالم. إذا استمر الوضع على هذا النحو، فقد يخرج من هذا المخيم جيل جديد من داعش، أكثر خطورة وتهورًا وتدريبًا من الجيل السابق. يعتمد مستقبل الأمن في سوريا والعراق، وحتى أوروبا، على سرعة اتخاذ المجتمع الدولي قرارًا بتحمل مسؤولية هذه الأزمة وإيجاد مخرج منها.