
ما بين يديكم عبارة عن الحلقات الأربعة من برنامج "الغدير في الكتاب والسنة" الذي بث على قناة الأنوار الفضائية بمناسبة عيد الغدير الأغر، وهو تعريف مختصر بموسوعة الغدير العظيمة ومؤلفها الفذ العلامة الأميني.
ونظرا لضيق وقت البرنامج فقد قد ارتأيت أن أضيف له العديد من التفاصيل إتماما للفائدة متوخيا في ذلك التوسط بين الإطناب الممل والاختصار المخل.
مقدمة
الحديث عن موسوعة الغدير لا ينفك عن الحديث عن مؤلف هذا السفر العظيم أي العلامة الأميني رضوان الله، فإن في خروج الكتاب على ما هو عليه نفحات ربانية وتسديدات إلهية بالكتاب والمؤلف، ولانملك إلا الانحناء تواضعا وإجلالا لهذا المؤلف الذي حاز السبق في إنجاز هذا المشروع العظيم، وإنني في الحقيقة لا أملك في هذه الحلقات المتواضعة والقصيرة من هذا البرنامج إلا التعريف العابر بالمؤلف والكتاب، أما أداء حق المؤلف فعلى صاحب الغدير، وأداء حق الكتاب على المتخصصين في البحث والتحقيق.
ولادته وأسرته:
ولد العلامة الشيخ عبد الحسيني الأميني في 25 صفر 1320هـ (1904م) في مدينة تبريز الايرانية، ونشأ في بيت علمي معروف بالتقوى، فوالده هو الشيخ أحمد ابن الشيخ نجف قلي الملقب بـ "أمين الشرع" ابن الشيخ عبد الله الملقب بـ "سرمست".
ولد أبوه في "سردها" قرب تبريز عام 1278هـ، وهاجر إليها عام 1304هـ ليستقر فيها، وكان من العلماء الأفاضل، فقد حضر أبحاث السيد أبي الحسن الاصفهاني والشيخ أسد الله بن محسن البزاز التبريزي، وكان صديقا للشيخ علي الخياباني مؤلف كتاب "وقائع الأيام".
وكان والده معروفا بالزهد والورع، ومهتما باستنساخ كتب القدماء، ومن أعلام أئمة الجماعة في تبريز، وكانت له بعض التأليفات، ومنها: تعليقات على المكاسب وشرح على قصيدة المفجع، توفي والده عام 1370هـ ودفن في مقبرة "نو شهر" في مدينة قم المقدسة.
أما والدته فكانت من المؤمنات الصالحات، يقول الشيخ محمد هادي الأميني نجل العلامة الأميني:
لقد كانت جدتي رحمها الله والدة الشيخ تقول: "كلما كنت أروم إرضاع ولدي ميرزا عبد الحسين أحسست بشيء يدفعني لأسبغ الوضوء، فكنت لا أرضعه إلا وأنا على طهارة".
أما جده نجف قلي الملقب بـ "أمين الشرع" فقد ولد في "سردها" عام 1257هـ، ثم هاجر إلى تبريز واستوطنها، وكان رجلا فاضلا زاهدا ورعا، وكان من الأدباء وممن ينشد الأشعار باللغتين الفارسية والتركية، وتوفي عام 1340هـ عن عمر يناهز 83 عاما، ولقد أوصى أن يدفن في النجف الأشرف فبقيت جثته أمانة في تبريز ثم نقلت بعد 13 عاما ودفنت في وادي السلام في النجف الأشرف، ولقد نقل من حضر دفنه أنه شاهد جثته سالمة وكأن الروح قد خرجت منها قبل يوم واحد!!
أخوانه:
للعلامة الأميني ثلاثة أخوة: أحدهم ميرزا محمود الأميني، والثاني ميرزا محسن الأميني، وقد توفي شابا، والثالث ميرزا إبراهيم الأميني، وكان أصغرهم، وقد توفي سنة 1405هـ، وله كتاب بعنوان: "آئينه ولايت" بالفارسية أي "مرآة الولاية" في ثلاث مجلدات.
زوجته وأولاده:
تزوج العلامة الأميني من امرأتين، وله من الأولى ثلاثة أولاد عدا البنات وهم: الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني صاحب المؤلفات المتعددة مثل "معجمم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام"، والشيخ رضا الأميني والذي كان ملازما لوالده في حله وسفره إلى آخر حياته، ومحمد صادق الأميني، وكان من الموالين المشتغلين بالتجارة.
أما زوجته الثانية فهي بنت السيد على الخلخالي، وله منها: الشيخ أحمد الأميني والشيخ محمد الأميني.
ومن طريف ما يرتبط بزواجه الثاني ما ذكره العلامة الأميني للأستاذ حسين الشاكري في النجف الأشرف عام 1385هـ (1964م): "رأيت فيما يرى النائم كأني دعيت إلى حفلة استقبال عظيمة في محل عام واسع كأنه مسجد الكوفة، ولما حضرت الاجتماع وأشرفت على محل الاحتفال وجدت آلاف المدعوين جالسين على الأرض، بعضهم في حجر بعض من شدة الزحام وكأن على رؤوسهم الطير، ولايمكن زحزحة أحدهم قيد أنملة.
وشاهدت في صدر المجلس منصة ترتفع عن رؤوس الجالسين قليلا، وكان عليها خمسة كراسي جلس عليها خمسة أشخاص، في الوسط سيد جليل القدر مهيب الجانب يشع من وجهه نور ساطع، وإلى يمينه رجل كهل ممتلئ الجسم، مربوع القامة، كث اللحية، ذو هيبة وحيوية ووقار، وإلى جانبه شاب جميل الصورة نوراني الطلعة، وإلى يسار السيد الجليل سيد مبرقعة الوجه متوشحة بلباسها، وإلى جانبها شاب جميل الصورة نوراني الوجه، كما رأيت خلفهم رجلا طويل القامة، أسمر الوجه، مشرب بحمرة، ذا عينين براقتين حادتين، وعلى رأسه قلنسوة هرمية كأنه لباس أهل تركستان.
تصورت - عند ذلك - أن السيد الجليل الجالس في الوسط هو رسول الله (ص)، والجالس إلى يمينه الإمام علي أمير المؤمنين (ع)، وإلى جنبه الإمام الحسن (ع)، والجالسة إلى جنب السيد الجليل هي السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع)، وإلى جنبها الإمام الحسين (ع)، والواقف خلفهم هو مولاهم قنبر.
فلما أشرفت على محل الحفل قام الكهل - الذي حسبته الإمام عليا (عليه السلام) - من على المنصة وأشار إلي بيده واستدعاني من دون الناس، فتوجهت إليه أتخطى رقاب الجالسين، محاذيا الجدار حتى صرت خلف المنصة، ولما أردت الصعود قامت السيدة - التي حسبتها فاطمة الزهراء - وأدارت ظهرها للجالسين واستقبلتني، رافعة البرقع من على وجهها النوراني، ولما رأيتها صعقت وأخذتني الرجفة، واستيقظت من نومي فزعا مرعوبا، وكان ذلك قبيل الفجر بقليل. ثم قمت من فراشي لأسبغ الوضوء استعدادا للصلاة والعبادة، ولكني مازلت ذاهلا مرتبكا من جراء الحلم، وقد أخذ مني كل مأخذ، حتى طلوع الشمس، عند ذلك ارتديت ملابسي وخرجت قاصدا أحد العلماء من أصدقائي، له اطلاع بتفسير الأحلام، فقصصت عليه ما رأيت في المنام، وبعد الانتهاء، من حديثي تبسم، وقال: أبشر سوف تصاهر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتتزوج إحدى بناتها".
وبالفعل فقد تحققت الرؤيا بعد فترة قصيرة حيث سافر العلامة الأميني إلى إيران وتزوج العلوية بنت المرحوم آية الله السيد علي الخلخالي (رحمه الله).
دراسته:
امتاز العلامة الأميني منذ طفولته بالذكاء والحدة وقوة الذاكرة، وكانت محبة أهل البيت (ع) والتعلق بالقرآن وأحاديث نهج البلاغة وبقية المعصومين (ع) تملأ قلبه ووجدانه، فأخذ بتعلمها، ولم يقف عند هذا الحد فقد انجذب إلى تعلم العلوم الدينية الحوزوية فشرع في الدراسة وطلب العلم وهو في الصغر، فدرس عند والده المقدمات المحتوية على علوم اللغة العربية من النحو والصرف والبلاغة، مضافا إلى علم المنطق وأدبيات اللغة الفارسية، ثم درس عنده شيئا من مرحلة السطوح في مادتي علم الفقه والأصول.
وكذلك درس العلامة الأميني مرحلتي المقدمات والسطوح في المدرسة الطالبية في تبريز عند جمع من علمائها مثل الميرزا محمود الدوزدزاني والسيد محمد بن عبد الكريم الموسوي الشهير بمولانا (من تلامذة شيخ الشريعة الاصفهاني والشيخ هادي الطهراني) والسيد مرتضى بن أحمد بن محمد الحسيني الخسروشاهي (من تلامذة الميرزا النائيني والشيخ عبد الكريم الحائري) والشيخ حسين بن عبد علي التوتنجي (من تلامذة محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الاصفهاني ومحمد حسن المامقاني ومؤلف كتاب "هداية الأنام")، وقد أكمل هاتين المرحلتين وله من العمر خمسة عشر عاما.
لم ترو دراسته السالفة شغفه وعطشه للعلم إذ كانت له رغبة جامحة منذ صغره لتعلم العلم في النجف الأشرف، ولكن هذه الرغبة واجهت اعتراض أبويه نظرا لصغر سنه ومخاطر السفر، فطلبا منه التريث ريثما يبلغ سن الرشد ويحصل على رفيق السفر، وسرعان ما هيأ الله عز وجل له ظروف السفر، فسافر إلى إحدى القوافل إلى النجف الأشرف سنة 1336هـ وله من العمر 16 عاما، فحضر البحث الخارج عند كبار العلماء آنذاك، مثل آية الله السيد محمد باقر الحسيني الفيروزآبادي وآية الله السيد أبي تراب الخونساري وآية الله الميرزا علي الإيرواني وآية الله الميرزا أبي الحسن المشكيني رضوان اللهعليهم.
الرجوع إلى تبريز:
بعد أربع أو خمس سنوات من البحث الخارج عاد إلى تبريز بطلب من والديه، فزاره فيها أستاذه الميرزا محمود الدوزدزاني واقترح عليه أن يلبس زي أهل العلم، فقبل منه العلامة الأميني ذلك الاقتراح وتعمم على يديه.
وقد اشتغل في فترة تواجده في تبريز بالتبليغ وإلقاء الدروس والمحاضرات، كما خصص قسما من وقته للتأليف، فكانت باكورة أعماله "تفسير فاتحة الكتاب"، وقد طبع في طهران عام 1395هـ.
وبعد سنة من إقامته في تبريز تزوج من والدة الشيخ محمد هادي الأميني، وفي نفس ذلك العام قاده شوقه إلى العزم على العودة إلى النجف الأشرف، فسافر إليها تاركا زوجته التي لحقت به بعد ذلك، مع ما كان عليه في تبريز من سعة الرزق والجاه والمقام.
في النجف الأشرف مجددا:
ومن شدة شوقه إلى المدفون في مدينة النجف الأشرف والعلم الذي فيها قصد استيطانها، وواصل دراسة البحث الخارج عند جهابذة العلم فيها في الفقه والأصول والفلسفة والكلام، حتى أجيز بالاجتهاد من جمع من كبار المراجع والمجتهدين، منهم: المرجع الكبير السيد أبو الحسن الاصفهاني، والمرجع الكبير الشيخ عبد الكريم الحائري، وآية الله الشيخ محمد حسين الاصفهاني (الكمباني)، وآية الله السيد ميرزا علي بن المجدد الشيرازي، وآية الله الشيخ ميرزا حسن النائيني النجفي، وآية الله الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء.
وقد كتب له شهيد المحراب آية الله السيد محمد علي القاضي الطباطبائي (قد):
"سماحة علامتنا الأكبر مفخرة الطائفة، حجة الاسلام والمسلمين، آية الله الشيخ عبد الحسين الأميني المحترم".
كما أجازه في لرواية جمع من علمائنا كآية الله الآغا الشيخ محمد حسن بزرك الطهراني وآية اللهالشيخ علي أصغر الملكي التبريزي وآية الله السيد أبي الحسن الاصفهاني.
الأميني في نظر العلماء:
من يراجع كلمات العلماء التي أطلقوها على العلامة الأميني يجد أنه كان يحظى بتقدير بالغ من قبلهم، وقد اكتفيت منها بالكلمات التالية:
1 - آية الله السيد أبو الحسن الاصفهاني:
"العلامة الامين الأميني، علم العلم والأدب، وهو كما شاء له العلم والفضيلة، والحيطة والبصيرة، فحياه الله تعالى من مجاهد دون مناجح أمته، ومناضل عن شرف قومه".
2 - آية الله الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني المعروف بالكمباني:
"حسن الانتخاب دليل عقل المرء ومبلغ رشده، وشارة نضجه في التفكير، كما أن جودة السرد آية براعته، وراية نبوغه، "المرء مخبوء تحت لسانه لا طيلسانه".
......فذانك برهانان على عبقرية المؤلف "الأميني" في الفن ونبوغه في الفضيلة، وتقدمه في البراعة، وأنه من أفذاذ الدهر، وحسنات العصر، ورجالات الأمة".
3 - آية الله الآغا بزرك الطهراني:
"وحيا (الله) المؤلف العلامة البارع، علم علم اليقين، جمال الملة والدين بما أسدى إلى أمته من يد واجبة، وسعي مشكور".
4 – آية الله السيد محسن الحكيم (قد):
"وإن من فحول هذه الزمرة المجاهدة مؤلف كتاب "الغدير" المحقق الفذ العلامة الأوحد الأميني دام تأييده وتسديده".
5 – آية الله السيد عبد الهادي الشيرازي (قد):
"من جلية الحق الواضحة أن الكتاب القيم "الغدير" الذي جاء به القائد الديني الفذ، والمصلح الكبير، والمعلم الأخلاقي الأوحد، حجة الإسلام الأميني النجفي".
6 – آية الله السيد حسين الحمامي (قد):
"وإن مؤلفنا الثقة فقيه المؤرخين ومؤرخ الفقهاء العلامة الأميني دام عزه ومجده وتأييده وتسديده هو من أولئك الذين وقفوا حياتهم الثمينة وأرخصوا أوقاتهم الغالية لتشييد الدين وإعلاء كلمة الحق والجهاد في سبيل الشريعة المقدسة والصراط المستقيم".
7 – آية الله الشيخ رضا آل ياسين (قد):
"فلم يخرجها (الضالة المنشودة) إلى عالم الشهادة حتى تبرز بها هذا الحبر الأمين، المأمون على الدنيا والدين، الذي جمع الله له إلى قوة الإيمان قوة العلم وقوة البيان، فكان له من تضافر هذه القوى الثلاث قوة لا تثبت أمامها قوة، لشد ما شد بها على أباطيل فصرعها، وعلى أضاليل فقمعها، وعلى مخاريق فمزقها وصدعها.
تلك لعمر الله موهبة عظمى لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، ومن أجدر بهذه الموهبة من هذا المجاهد الأكبر الذي وقف نفسه لمناصرة الحق ومناجزة الباطل؟ فما فتئ دائبا ليله ونهاره، مكدودا في سره وجهره حرصا على العمل بواجبه، فبارك الله له فيه كما بارك في جهوده ومساعيه، وحسبه من الكرامة علىالله جل شأنه أن ادخر له هذه المكرمة ليفيضها عليه ويجريها على يديه كما تجري المعاجز على أيدي الأنبياء".
8 - آية الله الحاج حسين الطباطبائي القمي الحائري:
"العالم العليم، البارع البحر الكامل".
9 – آية الله السيد صدر الدين الصدر"
"شيخنا الإمام العلامة فضيلة الأستاذ حضرة الحاج الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي أدام الباري على مفارق المسلمين ظلاله".
خصائصه ومزاياه:
1 – عبادته
كان يؤدي الفرائض في أول الوقت، وكان ولوعا بقراءة القرآن والدعاء والصلوات المسنونة وملتزما بأداء نوافل الليل، إذا قرب الفجر قام إلى صلاة الليل وقرنها بفريضة الصبح، ثم جلس إلى قراءة القرآن حتى ينهي جزءا كاملا كل يوم، مرتلا آياته بتدبر وإمعان، متزودا من حججه وبيناته، وبعد تناول طعام الصبح يأوي إلى مكتبته الخاصة، ويعكف على المطالعة حتى يحضر عنده تلامذته للتزود من دروسه، ويبقى مستمرا على التدريس والبحث حتى يحين أذان الظهر، فيقوم إلى أداء الفريضة، ثم يتناول طعامه، ويأخذ من الراحة زهاء ساعة واحدة، ثم يعود للعمل في مكتبته حتى منتصف الليل.
وكان إذا حل شهر رمضان المبارك عطل جل أعماله، وتفرغ للصيام والعبادة في النجف الأشرف، أو بكربلاء المشرفة، وعند ذلك يلزم نفسه قراءة خمسة عشر ختمة من القرآن، يهدي ثواب أربعة عشر منها إلى المعصومين الأربعة عشر، ويخص والديه بواحدة، وكان دؤوبا على ذلك حتى السنوات الأخيرة من حياته.
يقول السيد مرتضى النجومي (وهو أحد العلماء الذين حضروا أكثر دروس مرحلة السطوح عند العلامة الأميني):
"ماذا أقول في رجل كان ربانيا من رأسه إلى أخمص قدميه، كان جلوسه وقيامه لله سبحانه. إني لم أر في حياتي أحدا يصلي مثله، كنت إذا عاشرته أسرني، أغرق في عالم خارج عالم أولئك الذين يطوفون من حولي بما في ذلك عائلتي".
ويقول الشيخ محمد الآخوندي:
"من خصائص العلامة الأميني، تضرعه وابتهاله، قلما رأيت من العلماء من كانت له تلك الحالة من التضرع والخشوع والابتهال، ..... وكان لا يخاف من كلمة الحق أن يقولها مهما كانت الظروف قاسية، بالرغم من ترصد الأعداء له، ولذا تقرر جعل حماية له. يحضرني أنه تشرف ليلة القدر 23 من شهر رمضان المبارك بزيارة الضريح الطاهر لمرقد الإمام الرضا (ع) في خراسان، فجلس حارسه عند باب الحرم ينتظر خروجه فخطر في بال العلامة الأميني أن يجرب ويصلي صلاة ألف ركعة المسنونة إلى أمير المؤمنين (ع) في ليلة القدر، ليعلم هل أن ذلك إعجاز! أم أن باستطاعة الإنسان العادي أن يؤديها ويصليها. مما جعل حارسه ينتظره من الإفطار إلى السحر".
2 – الولاء لأهل البيت (ع)
فمن خصائص العلامة الأميني الحب والولاء الكامل لآل محمد (ع)، حبا مشهورا تتناقله الألسن، بحيث يمكن القول إن الغدير أثر من آثار ذلك الحب العارم، ومن هنا كانت له علاقة خاصة بسماع مصائب الإمام الحسين (ع) وأصحابه، وكان يبكي بصوت عال بكاء الثكلى المفجوعة، وكثيرا ما اتفق أن الخطباء والنائحين وسائر المستمعين عندما كانوا يرون العلامة الأميني وقد تغيرت حاله عند ذكر المصيبة، فإنهم كانوا يتأثرون بتأثره الشديد ويبكون لبكائه المحرق للقلوب.
وحقا كان المجلس الذي يحضره العلامة الأميني، ويجري فيه ذكر مصائب آل محمد (ع) وكأن واحدا من آل محمد (ع) موجود في ذلك المجلس، وكانت هذه الحالة تشتد وتبلغ أوجها عندما يذكر الخطيب وقارئ المصيبة اسم الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها، عندها كان يحمر وجهه ويبكي كما يبكي من اعتدى على ناموسه، وتشعر وكأن عيناه تقذفان اللهب مع الدموع الغزيرة المنهمرة منهما.
كان إذا زار أمير المؤمنين (ع) يحمر وجهه ويغمض عينيه ويلقي العنان لدموعه، وكانت زيارته تستغرق ساعة من الوقت فأكثر، وكان الناس يراقبونه ليتعلموا منه آداب الزيارة.
يقول نجله الدكتور محمد هادي الأميني:
"كان العلامة الأميني في غاية الأدب مع المعصومين (ع)، ولقد أخبرني بنفسه أنه لم يتفق أن دخلت الحرم – خلال فترة وجودي في النجف الأشرف – من جهة الرأس، بل كنت أدخل من جهة القدم وأخرج من نفس تلك الجهة".
ويقول ولده الشيخ رضا الأميني:
" كان من عادته أن يقصد الزيارة وحده، لا يرضى أن يتبعه أحد، ومعظم زياراته تكون ليلية، وعندما يدخل الحرم المطهر يتنكر للناس ولا يتحدث مع أي أحد مهما كان، وكان يحفظ الزيارة الجامعة الكبيرة عن ظهر قلب، وكان يقرأ زيارة " أمين الله " باستمرار، ويرتفع صوته بالبكاء والنحيب أثناء زيارته، وكذا الدعاء، لا سيما عند زيارته لمرقد الإمام سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام)، وقبل الشروع وقصد الزيارة يغتسل بالأغسال المستحبة ويتطهر بالوضوء".
ويقول الحاج حسين الشاكري:
" كثيرا ما كان يقصد زيارة سيد شباب أهل الجنة السبط الشهيد الحسين سلام الله عليه في كربلاء راجلا، طلبا لمزيد الأجر، ومعه ثلة من صفوة المؤمنين من خلص أصدقائه، يقضي طريقه خلال ثلاثة أيام أو أكثر، وهي لا تزيد عن 78 كيلو مترا، لا يفتر فيه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعظ والإرشاد، وإلقاء مواعظ وتوجيهات دينية على أهل القرى والرساتيق التي يمر بها، حتى يصل كربلاء المشرفة، وعندها لم يكن له هم سوى المثول بمشهد الإمام الشهيد، فيدخله ودموعه تنحدر على وجناته من لوعة المصاب. وكانت زياراته في حالات تخص به، لم يعهد مثلها من غيره، كما أن حاله في مجالس الأئمة المعصومين كانت خاصة به، لكثرة بكائه وجزعه".
وكان يختار الطريق غير المألوف والذي يمر وسط البساتين والقرى، فيمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتبليغ لعقائد ومعارف أهل البيت (ع) من دون أن يعرفه أحد.
ويقول الشيخ محمد الآخوندي:
"كان العلامة الأميني (ره) في أيام عاشوراء والفاطمية يتغير حاله فيبكي بصوت عال، قلما رأيت عالما يبكي بهذه الحالة، وكان كثير التعلق بحب أهل البيت (ع)، وكان يطلب العون من أرواحهم الطاهرة".
ويقول السيد محمد علي الشهرستاني:
"على الرغم من المخاطر المحيطة بالعلامة الأميني إلا أنه لا يترك زيارة العتبات المقدسة لا سيما حرم الإمام أمير المؤمنين (ع)، وكان يبكي بكاء شديدا عندما يقف أمام الضريح المطهر ويتذكر مظلوميته، وكان مولعا بالزيارات إلى جنب تأليفاته، وكان يستوحي من الإمام حل كل معضلة تلم به لاسيما في ما يخص تأليفاته، كالعلامة الحلي الكبير (رض) الذي كان يقصد الإمام من مقره في الحلة لحل مشاكله، وكان قد تعاهد مع أبرز تلاميذه السيد الجزائري في حياتهما بأن كل من يموت قبل صاحبه يأتي إلى الحي في المنام ومن عالم الآخرة يخبره ويطلعه. وقد توفي العلامة الحلي قبل صاحبه السيد الجزائري وجاءه في المنام وقال له: " لولا كتاب الألفين وزيارة الحسين (ع)... " إلى آخره، والقصة معروفة".
وضمن التأكيد على المضمون السابق يقول الدكتور محمد هادي الأميني:
"بعد مضي أربع سنوات من وفاة والدي العلامة الأميني النجفي، وفي سنة1394هـ رأيته في عالم الرؤيا إحدى ليالي الجمعة وقبل أذان الفجر فرحا ومسرورا، تقدمت نحوه، وبعد عرض السلام وتقبيل اليد قلت له: أبي، أي الأعمال استوجبت نجاتك وسعادتك؟ قال : ماذا تقول؟ قلت له ثانية :سيدي في هذا المكان الذي تقيم فيه الآن أي الأعمال تسبب في نجاتك : كتاب "الغدير" أو بقية التآليف أو تأسيس مكتبة أمير المؤمنين (ع) ؟ قال : لا أعرف ما تقول؟! تكلم بشكل أجلى وأوضح، قلت : أبي العزيز، لقد رحلت عنا وانتقلت إلى عالم آخر، ففي الموضع الذي أنت فيه أي الأعمال كان سببا في نجاتك من بين مئات الخدمات والأعمال العلمية والمذهبية والدينية الكبيرة؟ وبعد تأن وتأمل قال: فقط زيارة أبي عبدالله الحسين (ع)، قلت له : أنت تعلم أن العلاقات السياسية بين إيران والعراق متوترة حاليا ولا يمكننا السفر إلى كربلاء، فقال: شارك في المجالس التي تقام لأجل عزاء الإمام الحسين (ع) فإنهم يعطونك ثواب زيارة الإمام الحسين (ع)، ثم قال لي: يا ولدي العزيز لقد أوصيتك في السابق كثيرا وأوصيك الآن أيضا أن لا تترك زيارة عاشوراء لأي سبب وفي أي وقت، ولا تنساها، اقرأ زيارة عاشوراء بشكل دائم واعتبر ذلك وظيفة لك, فإن لهذه الزيارة فوائد وبركات وآثار كثيرة, وهي طريق نجاتك وسعادتك في الدنيا والآخرة.
كان العلامة الأميني مع كثرة مشاغله وتآليفه واهتمامه بمكتبة أمير المؤمنين (ع) في النجف الأشرف مواظبا على قراءة زيارة عاشوراء، ويوصي دوما بقراءتها".
3 - الورع والزهد
عرف العلامة الأميني بمراقبته لنفسه وجوارحه وخاصة لسانه، ولم يسمع منه أحد أي كلمة غير لائقة.
وكان متوكلا على الله تعالى منقطعا عن غيره محتاطا ورعا في أمر الحقوق الشرعية، فمنذ اليوم الأول الذي وطأت أقدامه أرض النجف الأشرف صمم على عدم الأخذ من الوجوه الشرعية وسهم الإمام (ع) لإمرار معاشه، وقال في هذا الصدد: "عندما قدمت إلى النجف الأشرف كان لدي مقدار من المال، وبعد فترة نفذ ما عندي، وكانت العادة الجارية في النجف أن طلاب العلم الذين يقدمون من أي مدينة يدونون أسماءهم عند مندوب مدينتهم بحيث لو قدمت أي أموال من تلك المدينة لديه فإنه يقوم بتوزيعها بينهم، وقد جاءني ذلك المندوب وقال لي: لقد سجلت اسمك، وأنت ستأخذ مني منذ الشهر القادم هذا المقدار من الحقوق، ولكن يجب عليك أن تأتيني بشهادة من واحد من هؤلاء المراجع بأنك قد وصلت لهذه المرحلة الدراسية بحيث يمكنك أخذ الوجوه الشرعية.
تضايقت كثيرا من هذا الأمر وتشرفت إلى حرم أمير المؤمنين (ع) وخاطبته: يا أمير المؤمنين (ع)، لقد جئت إلى جوارك للدراسة، فلا تحوجني إلى هذا وذاك، فلو أمكنك أن تتقبلني وتستضيفني فإنني سأبقى في النجف وسأخدمك، ومنذ تلك اللحظة وحتى خروجي من النجف لم أستلم الحقوق والوجوه الشرعية من أحد".
ويقول الشيخ باقر شريف القرشي:
"كان شيخنا المعظم ورعا تقيا محتاطا في دينه كأشد ما يكون الاحتياط قد أعرض عن زهرة الحياة، وكان يسكن في بيت بسيط جدا لم يبن بشؤون هذه الحياة الفانية، واتجه صوب الله تعالى، وعمل كل ما يقربه إليه زلفى، مقتديا بأئمة أهل البيت (ع) الذين زهدوا في الدنيا وأعرضوا عن جمع مباهجها".
ويقول الشيخ محمد الآخوندي:
"لقد كان العلامة الأميني زاهدا لا يعبأ بالحياة المادية، وما كان يملك دارا لسكناه في النجف الأشرف على رغم أنه قضى قرابة أربعين عاما فيها وتأليفه عدة كتب، وقد عاش حياة بسيطة متواضعة، وكان بإمكانه أن يعيش حياة أفضل، وحتى الدار التي اشتراها أخيرا كان ثمنها مشتركا بينه وبين المكتبة".
ويقول الدكتور محمد هادي الأميني:
"قدم من بغداد إلى بيت والدي ذات يوم ثمانية من العلماء الكبار لأهل السنة، وكان الجو حارا جدا، وكان المرحوم العلامة الأميني يسكن في السرداب تخفيفا عن حرارة الجو، وبعد الترحيب بالضيوف تداول معهم مسائل كثيرة، وحينما أرادوا الخروج قالوا له: لقد كتبت 11 مجلدا من الغدير حول علي بن أبي طالب، فهل تجليل الشيعة وتقديرهم لك هو هذا!! بحيث أنكم تسكنون في منزل قديم، ولو أنك كنت قد كتبت مجلدا واحدا فقط حول أحد الخلفاء لبنينا لك بيتا من الذهب، ولكن نحن كلما أطلنا النظر وجدنا أن وضعك يسوء أكثر بدلا من أن يتحسن، فليس لديك ثلاجة ولا مكيف للهواء ولا سجاد ولا منضد، وباختصار لا تملك أي وسيلة من وسائل الراحة في الصيف والشتاء، فكيف تعيش؟ توقف العلامة الأميني قليلا ثم قال: إن ما تطرحونه علي من اعتراضات صحيح، إنكم عندما تنتقدون وضعي فإنني أرجع إلى قلبي وهو يقول لي: إن لديك عليا، وأينما نظرت وجدت أن لدي عليا، وإن عليا فوق كل هذه الأمور، وأنا غير متضايق من حياتي بل شاكر ربي عز وجل عليها".
4 – التواضع ومساعدة المحتاجين
فقد عرف بتواضعه للخلق ونفوره من التكبر والغرور، وإلى جانب ذلك كان ملتزما بالالتزامات الاجتماعية تجاه ذوي الحاجات والمعوزين والبائسين، فكان كثير البر بهم، وصولا لأبناء نحلته، مساهما في أحزانهم، لم يرد سائلا، ولم يخيب آملا، يحمل نفسه المتاعب والعناء حتى ينهي مشكلة بائس أو فقير، ويتفقد حال أرباب الحرف الضعيفة في حارته، ويستكشف همومهم، ثم يبذل جهده في رفعها ما أوتي إلى ذلك سبيلا.
5 – غيرته على حرمة حرم أمير المؤمنين (ع)
يقول جعفر الخليلي:
"وقامت ذات يوم ضجة كبيرة في النجف وانشقت البلد إلى شقين بسبب مدفن رضا شاه، فقد أزمعت الحكومة الإيرانية على نقل جثمان الشاه من منفاه ودفنه في النجف، وقد كان قسم من الإيرانيين المتعصبين وجلهم من الروحانيين على خلاف مع الشاه المتوفى والحكومة الإيرانية ومن أشهرهم كان الشيخ عبد الحسين الأميني.
فراح هؤلاء يثيرون الناس ويهيجونهم ويدعونهم إلى معارضة فكرة دفن الشاه في النجف".
غير أن عدول الحكومة الإيرانية عن نقل الجثمان في النجف وقرارها الدفن في طهران أغلق هذه القضية الملتهبة.
6 – التقدير والاحترام لاسم الزهراء (ع)
وفق العلامة الأميني (قد) للحج مرتين، الأولى عام 1355هـ، والثانية عام 1375هـ، وفي حجه الثاني كان الحاج حسين الشاكري وهو من ملازمي العلامة الأميني في الحج أيضا، فقال وهو ينقل هذه الحادثة: " في سنة 1955 م = 1375 ه تشرفت بحج بيت الله الحرام، ومن حسن الصدف كان سماحة العلامة الأميني (قدس سره) قد تشرف هو أيضا بحج بيت الله في نفس السنة، وكان بمعيته المرحوم أخوه وولده الشيخ رضا الأميني، وقد زرت سماحته عدة مرات بالمدينة المنورة.
وكان من أصدقاء المرحوم والدي في المدينة المنورة السيد عبد الرسول ابن السيد عمران الحبوبي دعاني في بيته، وعمل مأدبة عشاء فخمة، ودعا إليها بعض الأصدقاء من الحجاج العراقيين ومن أهل المدينة، ثم قال لي السيد الحبوبي: ادع من شئت من أصدقائك من الحجاج ومعارفك، فقلت: ما عندي أحد غير الشيخ الأميني، وهو يتحرج من الحضور في أي مكان خشية وتقية، لأنه مؤلف كتاب " الغدير ".
قال السيد الحبوبي: دلني عليه وما عليك، فذهبنا معا إلى مسكن سماحة الشيخ الأميني عصرا، وكان على وشك الخروج من البيت لزيارة الحرم النبوي المطهر، فعرفت السيد الحبوبي لسماحة الشيخ وتعانقا، ثم دعاه السيد لحضور مأدبة العشاء، فاعتذر وامتنع من إجابة الدعوة، قال السيد الحبوبي لسماحة الشيخ بدون مقدمات: ألست تدعي أنك خادم جدتي الزهراء؟ ! قال الشيخ: بلى والله، وأتشرف بذلك، قال: إذن أقسم عليك بجدتي الزهراء أن تلبي دعوتي، قال: سمعا وطاعة، ثم التفت إلي وقال: ما هي إلا فتنتك، فتبسم، وقبل الدعوة وكانت مأدبة عامرة بحضارها وطعامها، وأمسية روحانية شيقة رائعة". (ربع قرن مع العلامة الأميني ص47)
وكما هو معلوم فقهيا فإن الإقسام على الغير بالله عز وجل أو المعصومين (ع) ليس فيه أي إلزام شرعي للمقسم عليه، ولكن رعاية من العلامة الأميني لاسم الزهراء (ع) ومقامها استجاب لمثل هذه الدعوة الكريمة.
7 – قول الحق والصدع به
ومن جملة خصاله المحمودة قول الحق والجرأة في ذلك، فلم يكن يداهن أحدا فيما يراه حقا يجب أن يقال، وفي هذا الخصوص ينقل الحاج جواد الشاكري عن العلامة الأميني (قد) قصة أخرى خلال فترة الحج تحكي هذا الجانب من شخصيته.
" تشرفت بحج بيت الله الحرام، ولما صارت ليلة التروية خرجت من مكة المكرمة قاصدا عرفة، وبت تلك الليلة في منى، وبعد صلاة الفجر من يوم عرفة استأجرت مكاري لحمل أمتعتي، قاصدا عرفة، ولما وصلتها وجدت الموقف عاجا بالحجيج، وكلما حاولت - عبثا - أن أحصل على مكان ما ولو بمقدار نصب خيمتي فما استطعت، وصرت أدور في مكاني يمينا وشمالا، حتى حانت مني التفاتة، وشاهدت من بعيد سرادقا كبيرا أمامه فسحة واسعة مفروشة بالبحص الناعم، محاطا بالعسكر والحرس، فقصدته.
ولما وصلت المكان أمرت المكاري أن ينزل أمتعتي، فأعطيته أجرته وذهب، ثم باشرت في نصب خيمتي وحدي، وصاح بي العسكري وناداني من بعيد ليمنعني، فلم أعره أذني ولم أهتم به، حتى ولم ألتفت إليه، جاء العسكري حتى وصل إلى جنبي وأمسك بيدي ليمنعني من قصدي، فوقفت وقلت: ما تريد؟ ولماذا تمنعني من نصب خيمتي؟ متجاهلا ما حولي، قال العسكري: ممنوع، فقلت: لماذا؟! مستغربا قال: ألم تر، هنا سرادق الأمير، فصحت بأعلى صوتي ليسمعني من في السرادق، مستغربا ومحتجا، وقلت: أمير؟!! قل لأميرك: "فليرحل من أرضنا، هذه أرض العبيد وليس للأمراء مكان هنا"، فذهل العسكري وأسقط ما في يده، وذهب ليبلغ أميره كلام "العلامة الأميني"، فعرف عند ذلك الأمير أن المتكلم ليس بالرجل العادي فهابه ولم يعد لمنعه".
8 – تكريم ذرية رسول الله (ص)
يقول السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني:
"كان العلامة الأميني يوصي أولاده: حتى لو أن سارقا سرق أثاث البيت وأمسكتموه وعرفتم أنه سيد من أولاد الزهراء (عليها السلام) فاتركوه، ولا أرضى لكم أن تؤذوه أدنى أذى أو تقدموه إلى الشرطة والمحاكم.
وينقل الحاج حسين الشاكري عن العلامة الأميني قوله:
"بعدما أنهيت أعمالي اليومية خرجت إلى السوق الذي هو قريب من دار سكناي (الواقعة في سوق الحويش)، لأشتري ما أحتاجه للبيت من طعام، وكنت واقفا على محل القصاب لأشتري اللحم، وكان إلى جنب القصاب دكان بقالة لسيد ضعيف الحال، فانتهز هذا السيد وقوفي ونزل من دكانه ليحدثني في مسألة، وهم أن يتكلم في حاجته ولكن بعض الطلبة المحيطين بي حال دون ذلك فانشغلت وما استمعت لحديث السيد وطلبه.
وما أن وصلت الدار تذكرت فتركت ما اشتريت من لحم وخضروات ورجعت إلى السيد مسرعا، لأستمع إلى طلبه وما يريده، فلما وصلت قام السيد البقال وطلب من الشيخ الأميني أن يدخل دكانه، قال الشيخ: لما صرت داخل دكانه، قام وأدار ظهره إلى السوق وفتح حزامه الذي هو حبل من ليف، وقال للشيخ: انظر ما على جسمي غير هذا الرداء المهلهل والعلويات اللواتي في بيتي لا يملكن سوى عباءة واحدة يتناوبن عليها لأداء فريضة الصلاة، وليس لهن ما يسترن أجسادهن به.
لما سمعت كلام السيد استشطت غضبا وقلت: أين الأغنياء وأهل الحقوق الشرعية وسهم السادة؟!
فأمسكت بيد السيد وأنزلته من دكانه وقلت: تعال معي، وقصدت به مسرعا إلى الحرم المطهر، لأشكو إلى جده الإمام (ع) من ظلم من يأكل الحقوق الشرعية، وما أن وصلت باب الصحن الشريف، وإذا بالحاج عبد الحسين أبو الريحة " البستاني " (والد الدكتور محمود البستاني) يناديني، وقد سلمني مبلغ ثلاثين دينارا - وكان يومذاك مبلغا كبيرا (يكفي لمؤونة سنة) - وقال: إن الشيخ الفلاني - وهو من رؤساء العشائر المحيطة بالنجف الأشرف - قدم هذا المبلغ هدية لك لتستعين به على أمورك.
قال العلامة الأميني: أخذت المبلغ فورا وسلمته بكامله إلى السيد، وقلت له: خذ هذا المبلغ، أرسله لك جدك أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأخذ السيد المبلغ وكاد يطير فرحا وذهب مسرورا إلى داره وعياله".
من كراماته: مضافا إلى عشرات الموارد التي تحكي عناية أمير المؤمنين (ع) الخاصة بالعلامة الأميني في تأليفه كتاب الغدير، فإن هناك بعض المواقف التي تحكي وجود ارتباط خاص له بالله وبالمعصومين (ع) بحيث تنكشف له بعض الأمور الغيبية.
الكرامة الأولى:
يقول الأديب والكاتب المصري الدكتور صلاح الصاوي (الحائز على شهادة الدكتوراه بالأدب الفارسي): "رأيت يوما شابا أنيقا وفي عنقه قلادة من ذهب نقش عليها صوره الإمام علي (ع)، ولما كنت محبا للإمام علي (ع) فقد وددت أن تكون تلك القلادة في عنقي، لكن ذلك لا يناسبني.
وفي اليوم الثاني ذهبت لزيارة العلامة الأميني (ره) فإذا بآية الله المحترمي (أحد علماء إيران) يدخل المجلس وكان بيده كيس فسلمه لشيخنا الأميني، فأخذ الكيس منه وأعطانيه، وقال: هذا ما أردته، وكنت أرغب في معرفة ما بداخله.
وبعد ما انفض المجلس ودعته وخرجت، فلما ركبت السيارة فتحت الكيس لأرى ما فيه، فإذا في الكيس قلادة من مرمر منقوش عليها صوره الإمام علي (ع) يمكن تعليقها في العنق أو على الجدار، فقلت:الله أكبر، كيف ألهم ذلك وعرف ما في نفسي؟! فمنذ ذلك الوقت علمت أنه ليس عالما وخطيبا، وكاتبا فحسب، بل هو ملهم وصاحب كرامات، وفراسة عميقة، وفي الحديث الشريف " احذر فراسة المؤمن، فإنها تنفذ كالسهم".
الكرامة الثانية:
الشاعر المصري المعروف محمد عبد الغني حسن كتب أبياتا من الشعر في إطراء الغدير ومؤلفه، وقد رد عليه العلامة الأميني يشكره على قصيدته، ولكنه سأله: لماذا تركت الأصل وتمسكت بالفرع، فلماذا لا تظهر محبتك لأمير المؤمنين (ع) وتكتب غديرية لتسجل اسمك ضمن شعراء الغدير، وتبقي اسمك خالدا.
مضى شهران ولم يكتب محمد عبد الغني ردا على رسالة الأميني، ثم كتب رسالة يشرح فيها علة التأخير في الجواب، وقال فيها: ليس لي في هذه الدنيا سوى بنت واحدة، ولقد أصاب الأطباء اليأس من شفائها وتحسن حالتها، وهي تحتضر الآن، ومن ثم فلا أملك أي قريحة شعرية، ولكن من حيث طلبتم مني ذلك فقد أنشدت هذه الغديرية بعين باكية، وها أنا ذا أرسلها إليكم.
وصلت الرسالة يوم الخميس إلى العلامة الأميني فتوجه في ليلتها (ليلة الجمعة) إلى حرم أمير المؤمنين (ع)، وفي اليوم التالي سلم رسالة إلى ابنه الشيخ رضا وطلب منه أن يرسلها بالبريد إلى الشاعر محمد عبد الغني، وقال له: لقد قرأت غديريته البارحة في الحرم أمام أمير المؤمنين (ع)، وأنا أحسب أنني قد أخذت شفاء ابنته منه.
كان يقول ذلك وهو واثق من أنه في ارتباطه بأمير المؤمنين (ع) قد نال مراده.
بعد إرسال الرسالة إلى مصر جاء الجواب من الشاعر محمد عبد الغني بعد أسبوعين يقول فيها: سبحان الله، في نفس الليلة التي قلتم أنكم أنشدتم غديريتي في حرم أمير المؤمنين (ع)، أصاب ابنتي حمى شديدة، ثم تحسنت حالتها بعد ذلك وشفيت.
من أقواله:
- يجب على الشاعر المؤمن أن يتبرأ من أعداء محمد وآله محمد، وإضافة إلى مدائحهم ومراثيهم، فإن دروس التبري أعظم من دروس التولي والمودة.
- جميع العبادات ناشئة من المحبة، وهل الدين إلا الحب والبغض، وكلما ازدادت محبة الله في القلب ابتعد الإنسان أكثر عن المعاصي والذنوب، ومن كان توجهه إلى ربه في الصلاة ضعيفا فإنه يعاني من مشكلة في المحبة.
- من يقرأ الزيارة الجامعة الكبيرة ويدرك ماذا يقرأ فإن هذا الفرد الشيعي لا يمكن أن يكون جاهلا، وذلك لأنه يعرف ماذا يعني الدين.
أهم إنجازاته:
1 – تأسيس مكتبة أمير المؤمنين (ع)
كانت مدينة النجف الأشرف تفتقر إلى المكتبات العامة، ولم يكن هذا لائقا بالموقع العلمي لهذه المدينة العلمية العريقة.
وكانت أغلب المكتبات الكبيرة المحتوية على الكتب والمخطوطات النفيسة ملكا شخصيا لصاحبها، مما كان يجعل الباحثين والمحققين وعلى رأسهم العلامة الأميني في ضيق من أمرهم عند افتقاد كتاب، إذ كثيرا ما كان الشخص يجهل عن موضع وجود الكتاب أو أنه يواجه صعوبة في الموافقة على إعطائه الكتاب، فانبثقت في ذهنه تأسيس مكتبة عامة تضم أهم الكتب والمراجع يقصدها المراجعون، فقام بشراء دارين في آخر سوق الحويش ثم بادر بشراء ما يمكنه من شراء الدور المجاورة، وفي العام 1375هـ / 1955م تم الشروع في بناء المكتبة ببناء السرداب والمخزن. ولقد وضع العلامة الأميني جل إمكاناته لهذه المكتبة، حتى انعكس ذلك على مستوى حياته الشخصية، ومن طريف ما ينقله الحاج حسين الشاكري في هذا المجال قوله: " كنت على مائدة سماحة العلامة الأميني (قدس سره) ظهر يوم من الأيام نتناول طعام الغداء، وكان يحدثني بتخطيطه للمراحل التي ما بعد إكمال بناية المكتبة، وتأثيثها، وأنا مأخوذ بأحاديثه الشيقة، استمع إليها، فجأة توقف عن حديثه وابتسم، فلفت انتباهي، وقال: أحدثك هذه النكتة الطريفة: دخلت يوما الدار فوجدت الأطفال - من أحفادي وأسباطي - يلعبون في ساحة الدار ولم يشعروا بورودي، وكان بيد أحدهم " مصباح كهربائي عاطل "، وكان معتزا به، فقال له الآخر: أخفه عن جدنا إذا حضر، ولا تدعه يراه، فقال الذي بيده المصباح لماذا؟!! قال: أخشى إن رآه عندك يأخذه منك، ويذهب به إلى المكتبة ؟
أقول: ما ترك الشيخ الأميني شيئا ذا قيمة وشأن في داره إلا وأخذه إلى المكتبة، حتى الأطفال أصبحوا يشعرون بذلك، لذلك كان الأطفال يحذر بعضهم البعض".
وكان ينقص مثل هذه المكتبة مئات الكتب والمصادر من المخطوطات والمطبوعات، فكان يسافر بنفسه في كل عام إلى إيران وغيرها من البلدان أو يراسل من يمكنه إرسال ما تحتاجه، وقد سدده الله عز وجل في تحصيل الأموال لهذه المكتبة مع قلة ذات اليد، وقد مضى في هذا العمل في جهد دءوب حتى افتتحها في يوم الغدير من عام 1379هـ.
يقول الشيخ باقر شريف القرشي:
"من الخدمات الجليلة التي أتحف بها شيخنا المعظم الهيئة العلمية مكتبته التي أسماها "مكتبة أمير المؤمنين (ع)"، وهي أسمى مكتبة في العراق، ففيها من الآثار المهمة التي لا توجد في أي مكتبة أخرى، وهي محفوفة بعناية الله تعالى ورعايته، ففي الانتفاضة الشعبانية ضد الطاغية صدام التكريتي كانت المكتبة بيد القوات الصدامية، وقد صمم القائد على نسف المكتبة، وعين لذلك وقتا خاصا إلا أنالله تعالى صرفه، فإنه قبل القيام بحرقها بساعات صدرت الأوامر من بغداد بنقله".
2 _ أسفاره
من أجل توفير الكتب اللازمة لأبحاثه وخاصة لكتابه "الغدير" سافر العلامة الأميني إلى عدة دول، فقد سافر في 24 شعبان عام 1380هـ إلى الهند، وبقي فيها مدة أربعة أشهر (حتى25 ذي الحجة) متجولا في أهم مكتباتها الثرية بالمخطوطات والمتوزعة في مدنها، ففي لكهنو زار المكتبة الناصرية العامة (مكتبة آل صاحب العقبات) والحسينية ومدرسة سلطان الواعظين وسلطان المدارس وممتاز العلماء وندوة العلماء وأمير الدولة وفرنكي محل، وفي مدينة حيدر آباد زار مكتبة الآصفية والجامعة العثمانية وسالار جنك ودائرة المعارف الإسلامية، وفي بتنة زار مكتبة خدا بخش، وفي رامبو زار مكتبة الرضا، وفي عليكره زار مكتبة أبو الكلام آزاد.
وفي ربيع عام 1384هـ سافر إلى سوريا للوقوف على ما فيها من مخطوطات، وقضى فيها أربعة أشهر، وعمدة المكتبات التي زارها في رحلته الشامية وأخذ منها هي: المكتبة الظاهرية في دمشق، حيث أخذ منها وقرأ فيها 589 كتابا، ومكتبة المجمع العلمي (اللغة العربية) بدمشق حيث أخذ منها كتابا واحدا، ومكتبة الأوقاف (الأحمدية) في حلب حيث أخذ منها ثلاثة كتب.
كما سافر إلى تركيا عام 1388هـ، وبقي في اسطنبول 15 يوما، و10 أيام في بورسة، واطلع على عدة مكتبات مثل: المكتبة السليمانية ومكتبة طوب قبوسراى ومكتبة جامع أياصوفيا ومكتبة كوبرلي ومكتبة جامع نور العثمانية ومكتبة حراججي أوغلي ومكتبة أولو جامع ومكتبة حسين جلبي ومكتبة كنلون، واطلع فيها على اصول في التفسير والحديث والرجال والكلام، غير أن مرضه حال دون التوسع في الاطلاع فاقتصر على تصفح الكتب بشكل سريع ليقف على ما في طياتها من آراء وعقائد مما يرتبط ببحوث أجزاء كتابه، وأهم ما وقف عليها من الكتب بلغ 55 كتابا.
وقد ألف العلامة الأميني كتابا حول أسفاره تلك سماه "ثمرات الأسفار إلى الأقطار" وقد تطرق فيه إلى رحلته الشامية والهندية وجزءا من الرحلة الطهرانية.
وقد أورد في رحلته الهندية اسم 102 كتابا مخطوطا قد قرأه من بدايته إلى نهايته بما له من خصوصيات من حيث عدد الصفحات، وعدد الأسطر في الصفحة الواحدة، وما جاء في بدايته ومختتمه ومحتوياته، وكان يذكر بعض المقاطع الملفتة من تلك الكتب ممزوجة أحيانا بتعليقه، كما أشار إلى اسم المكتبة التي أخذ منها الكتاب، وهكذا فعل في رحلته الشامية، وقد أورد فيه اسم 593 كتابا.
أما في رحلته الطهرانية فقد أشار العلامة الأميني إلى أسماء تسعة من الكتب التي أخذ منها.
وكان الشيخ الأميني يرى ضرورة انتشار العلماء في أرجاء الدنيا، ومما ينقل عنه في هذا المجال قوله بعد عودته من سفره إلى بلاد الهند:
لو كنت مرجعاً تأتيني أموال الحقوق الشرعية لكنت أعطيها علماء الدين وأقول لهم: تحركوا، هذه تكاليف سفركم، اذهبوا وانتشروا لتعرفوا الإنسان والعالم" .
قال الشيخ رضا الأميني:
"وقد سافر إلى الهند سنة 1380 ه، وقد دون خلاصة مطالعاته وما يحصل عليه من المصادر النفيسة، حتى أصبح كتابا ضخما أسماه " ثمرات الأسفار " بخط يده الشريفة، وقد جمعتها بعد وفاته وجعلتها في ثلاث مجلدات، وهي قيد الطبع.
كما سافر شيخنا الوالد إلى سوريا، وقد جمعت ملاحظاته المتعلقة بسفره ودونتها، وقد طبعت في خمسة أجزاء. وكانت سفرته الأخيرة إلى تركيا، وكان يعاني من شدة وطأة المرض، فلم يتمكن من القيام بما قام به في سفرتيه السابقتين، فلم يترك شيئا مدونا، وإنما ترك أسماء الكتب اللازمة لمكتبة الإمام أمير المؤمنين والمكتبات الموجودة فيها، كما أني سافرت إلى تركيا بعد وفاته (ره) واستنسخت في مدة ثلاث سنين ما يقرب من 700 ألف صفحة بالفلم (المايكروفيلم)".
يقول الشيخ رضا الأميني:
"ففي عام (1384 هـ) عزم شيخنا الوالد (قد) على السفر إلى سوريا، وكان غرضه من تلك الرحلة هو البحث عن المصادر التي لا تزال مخطوطة، ولم يقدر لها أن تخرج إلى عالم النور وتحتل مكانتها بين المطبوعات، وتعتبر من أهم الأسانيد والمصادر التي نشير إليها في مطبوعاتنا وكتبنا ونرجع إليها، وهي من نفائس آثار السلف ومن كنوز التراث الإسلامي، وتزخر بها مكتبات دمشق، كالمكتبة الظاهرية ومكتبة الأوقاف.
وكان غرضه من وراء كل ذلك إنجاز سفره الخالد وموسوعته الكبرى "الغدير"،وكان الأستاذ الشاكري عمد إلى تهيئة متطلبات السفر وإقامة شيخنا الوالد في الشام، حيث أقام فيها زهاء أربعة أشهر، وعرضت للشاكري في تلك الفترة سفرة إلى أوروبا في بعض شؤونه التجارية، وعند عودته إلى بلده عرج على دمشق بدافع رباني ليطمئن على صحة الوالد ويلبي حاجاته، وما إن هبطت الطائرة في مطار دمشق حتى أسرع توا إلى المكتبة الظاهرية، حيث يقيم الوالد في غرفة خاصة خصصت له من قبل الأساتذة الأفاضل أعضاء المجمع العلمي وأسرة المكتبة، تكريما له واعترافا بمكانته العلمية.
وحينما دخل عليه في غرفته الخاصة تلك شاهد العلامة الكبير غارقا بين مئات الكتب النفيسة مشتغلا بالمطالعة، فسلم عليه وما أن رفع الوالد طرفه الكريم ليرد عليه السلام حتى قام من مكانه وضمه إلى صدره، وعانقه معانقة الوالد الولهان لولده متبسما في وجهه، وقد أولاه من عطفه الأبوي ما يملأ النفس ارتياحا. وكان يسأل عن أفراد عائلته ويتفقد أحوالهم واحد واحدا، كما هو ديدنه في رسائله وعندما يجتمع معه.....
وبعد أن أكمل حديثه حانت من الولد البار الشاكري التفاتة إلى والده الروحي، فوجد إحدى عينيه حمراء ملتهبة كأنها علق دم من كثرة الكتابة والمطالعة، وشاهده في حالة يرثى لها من الإجهاد والانهيار والتعب، فقال له: شيخنا، الله الله في صحتك، ورفقا بحالك وحالنا، أنتم اليوم لستم ملكا لأنفسكم فحسب بل لأمير المؤمنين (ع) وللأمة الإسلامية كلها. قال له هذه الكلمات وهو ينظر إليه ويرى آيات التعب والنصب قد بدت على محياه، غير أنه (قد) ذلك البطل العملاق، بل ذلك الجبل الأشم، عرفه كل من عرفه لا يعبأ بمثل هذه الأتعاب ولا تحركه العواصف، ولا يخضع إلا أمام هدفه السامي المقدس، الذي تحدوه إليه عقيدة راسخة وقدم ثابت في ميدان الولاء للنبي الأكرم (ص) ولأهل بيته الأطهار (ع)، هو شديد الولاء عميق الإيمان متفان في حب أهل البيت (ع)، لا يبالي في تحقيق أهدافهم أن تدك السماء أو تصعد الأرض إلى السماء.
فقال الشاكري لسماحته: هل لكم من عمل أقوم بإنجازه خدمة لسيدي ومولاي أمير المؤمنين (ع)؟ فرمى إليه الشيخ بطرفه الكريم وقد انفتحت أسارير وجهه، وعلته ابتسامة وتهلل فرحا وهو يقول: نحن الآن في أمس الحاجة إلى تصوير كمية من هذا التراث الإسلامي ونقله إلى جامعة النجف الأشرف، ليقف عليه الباحثون من رجالاتنا هناك. وحين أعلمه الشاكري أنه مستعد لدفع ثمن ذلك مهما كلف استبشر الوالد وانشرح صدره وظهرت عليه آيات السرور، وكأن هما ثقيلا قد أزيح عنه، وقال: كنت قبل قليل أدعو الله وأتضرع إليه بحق سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (ع) أن يقيض لي رجلا من مواليه ومحبيه يقوم بهذه المهمة، ولم أنته من دعائي وتضرعي إلا وأنت قائم على رأسي، فهنيئا لك، ودعا له بالتوفيق وقبول الأعمال.
فقال الشاكري: ما كان بالحسبان أن أزوركم في دمشق، فإني كنت على وشك أن أعود إلى العراق ولكن بجذب ملكوتي خطر في ذهني أن أزوركم أولا ثم أرجع إلى بغداد، وليس هذا إلا من فضل ربي. هذا ما حدث في بدء العمل بتصوير المخطوطات التي قامت المكتبة ولا تزال مستمرة بتصويرها وجلبها من مختلف البلدان. وكان من المقرر أن يصور من هذه النفائس أكثر من نصف مليون صفحة، ولكن الظروف الصعبة حالت دون ذلك.
3 – التبليغ
وفي إيران مارس التبليغ في مدن عديدة سافر إليها كمشهد وطهران واصفهان وشيراز، وقد جمعت بعض تلك المحاضرات على شكل كتيبات، والبعض الآخر ما زال بصورة الأشرطة المسجلة.
وقد كان في سفره يواجه المد المنحرف الذي كان يستهدف عقائد الناس وأخلاقهم من مختلف الجهات التي كانت تملك جمعيات ومحافل علنية كالبهائية والشيوعية والماسونية والصهيونية، وكانت تلك الجهات تحظى بدعم دولة الشاه أو سكوتها، وانضمت إليها أخير الوهابية الضالة حيث أقبلت مدعوما بالأموال الطائلة من الخليج.
وقد ترك هذا الهجوم آثارا واضحة على الواقع في إيران حيث أصاب كثير من مبلغي الدين الفتور والضعف، وكان العلامة الأميني وثلة من العلماء والمثقفين الواعين على رأس المتصدين لهذا الهجوم، وقد خصص من وقته أكثر من أربعة أشهر متواصلة يمارس فيها التبليغ، وقد بقي في اصفهان لوحدها شهرين أو أكثر يصعد المنبر في كل ليلة ولمدة ساعتين أو أكثر، وقد كان لتصديه الأثر البارز في تفنيد تلك الأفكار الهدامة وإعادة الروح إلى نفوس الناس وخاصة الشباب الضائع.
وفي حلب حيث سافر إليها لتحصيل مصادر موسوعة الغدير بقي فيها 15 يوما كان يلقي فيها في كل يوم دروسا دينية لمدة ثلاث ساعات، وقد تحولت مضامين تلك المحاضرات إلى كتابه "سيرتنا وسنتنا"، وقد تفقد في سفره إلى حلب القرى والمناطق المحيطة بها مثل: كفرية والفوعة ومعرة ومصرين.
وفي الهند حيث كان يتجول في مكتباتها، فقد مارس الخطابة والتبليغ، يقول الشيخ رضا الأميني:
"وبالرغم من توصيات الأطباء، الذين كانوا يحرصون على سلامة شيخنا الوالد، ومنعهم إياه من إلقاء المحاضرات، ومحاولتهم - قبل سفره - إلزامه تجنب طول البحث والكلام والمواظبة التامة على صحته العامة، وعدم إجهاد نفسه في الكتابة والمطالعة، إلا أنه إلى جانب عمله المضني، وسهره في المطالعة والكتابة وجد نفسه أمام مسؤولية دينية كبيرة في تلك القارة، تلزمه تسنم منبر الخطابة للوعظ والإرشاد وتوجيه المسلمين ودعوتهم للتمسك بكتابهم المقدس القرآن الكريم، والسير وراء سننهم الدينية، وما جاء به النبي الأعظم (ص).
ونظرا لانحراف صحته اقتصر بالحضور على مجالس عديدة، عقدت للاستماع إلى أحاديثه الشيقة، ومحاضراته البليغة، ومواعظه الحسنة الصادرة من القلب، وقد حضر في كل منها جمهور غفير من مختلف الفئات، وشتى الطبقات، يتجاوز عددهم عشرة آلاف، وكان يلقي في كل من تلك المشاهد والمحافل - وكانت تستغرق زهاء ساعتين - محاضرات دينية تحوي بحوثا عالية، ونصائح غالية، وإرشادات ثمينة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، تتميز بالدعوة إلى توحيد الكلمة ووحدة الصف تحت لواء الولاية الكبرى التي أمر بها المولى في كتابه، ونص عليها النبي (ص) في خطبه وأحاديثه، واعتذر عن تلبية طلبات كثيرة في الأمر ذاته وجهت إليه من شتى أنحاء الجمهورية الهندية، وذلك لما كان يتطلبه هدفه السامي وغرضه النبيل في المطالعة من الوقت الكثير".
مستنسخاته:
وخلال انشغاله بالبحث والتدريس والمطالعة والتحقيق، وجد نفسه بحاجة إلى اقتناء بعض الكتب المخطوطة من تراثنا الفكري في البحوث الإسلامية، ولم يتأت ذلك بالشراء والاستعارة، فجد في القيام باستنساخ جملة من الكتب التي كان بحاجة إليها آنذاك، وبذل قصارى جهده في كتابتها بخطه الرائع الجميل، وكان مما استنسخه:
1 - "دعائم الإسلام" في معرفة الحلال والحرام والقضايا والأحكام المأثورة عن أهل البيت للقاضي النعمان بن محمد المغربي المصري المتوفى 363 ه.
2- "الأمالي" للشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد المتوفى 413 ه.
3 - "المزار الكبير" للشيخ أبي عبد الله محمد بن جعفر المشهدي الحائري.
4 - "إيضاح دفائن النواصب" للشيخ أبي الحسن محمد بن أحمد بن شاذان الفقيه القمي.
5 - "الطرف" لرضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن طاووس الحلي المتوفى 446 ه.
6 - "اليقين في إمرة أمير المؤمنين" لنفس المؤلف السابق.
7 - "نوادر الأثر في أن عليا خير البشر" للشيخ الجليل أبي محمد جعفر بن أحمد بن علي القمي نزيل الري.
8 - "خصائص الأئمة" للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي البغدادي المتوفى 406 ه.
9 - كتاب "السقيفة" لسليم بن قيس الهلالي العاملي الكوفي المتوفى حدود سنة 90 ه.
10 - " الاجازة الكبيرة لعلماء الحويزة " للمجيز السيد عبد الله بن السيد نور الدين بن السيد نعمة اللهالجزائري المتوفى 786 ه.
11 - "المسائل الأربعون الكلامية" للشهيد الأول محمد بن مكي العاملي المستشهد عام 786 ه.
12 - "جذوة السلام في نظم مسائل الكلام" للشيخ محمد بن طاهر السماوي المتوفى 1370 ه. 13 - "جمل الآداب" من نظم المؤلف السابق، وهو عبارة عن نظم لما جاء من مناقب أمير المؤمنين (ع) في كتاب عيسى بن داب المتوفى 171هـ.
هذا مضافا إلى استنساخه لكتب أخرى من مكتبات الهند عند سفره إليها، ومن المكتبة الظاهرية في دمشق الشام.
يقول الشيخ محمد الآخوندي: "كان ملزما نفسه بالعمل كل يوم ثماني عشرة ساعة حتى في أيام سفره على حد سواء، كما أن أمين مكتبة الظاهرية في سوريا على رغم سلفيته وتعصبه أعطى مفتاح المكتبة إلى الشيخ الأميني ليستفيد منها متى شاء خلال الأربع والعشرين ساعة من يومه ليل نهار، حتى استطاع أن يستنسخ من كنوزها الخطية النفيسة بخط يده الشيء الكثير، حتى بلغ ألفي صفحة من الصفحات الكبيرة خلال مدة ثلاثة أشهر، فضلا عن مطالعته لمئات الكتب والمصادر المهمة، وما زالت تلكم الصفحات في مكتبة أمير المؤمنين (ع) العامة بالنجف الأشرف".
مؤلفاته المطبوعة:
ألف العلامة الأميني (رض) مجموعة من الكتب غير كتاب "الغدير" الذي اقترن باسمه، وبعض تلك الكتب مخطوط والبعض الآخر مخطوط، أما المطبوع منها فهو:
1 - تفسير فاتحة الكتاب: وهو أول كتاب له، كتبه بعد عودته إلى تبريز بعد سفره إلى النجف الأشرف، هو في فصلين، أحدهما في في تفسير السورة، والآخر في بيان ما يستفاد منها من دقائق في التوحيد، والقضاء والقدر، والجبر والتفويض، مع الاستشهاد بما جاء في الأحاديث، وقد طبع في طهران سنة 1395هـ.
2 - شهداء الفضيلة: وهو كتاب مبتكر في موضوعه، يحوي تراجم شهداء علماء الإمامية الأعلام من القرن الرابع الهجري إلى العصر الحاضر، وهم مائة وثلاثون شهيدا.
وقد ذكروا في سبب تأليفه هذا الكتاب أمرين:
الأول: أن بعض الأقلام الحاقدة على شيعة أهل البيت (ع) في مصر كتبت تشكك فيما قدمه رموز الشيعة للإسلام من تضحيات، فكتب كتابه هذا للرد عليه.
والثاني: أنه وحين كان في تبريز وفي الثامنة عشرة من عمره اغتالت السلطة الشهيد العالم الشيخ محمد الخياباني في تبريز في 29 ذي الحجة من عام 1338هـ، مما خلق في نفسه الدافع للتطرق إلى علماء الشيعة الشهداء.
وقد قرظ كتابه هذا مجموعة من كبار العلماء مثل السيد أبو الحسن الاصفهاني والشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني والسيد حسين الطباطبائي القمي الحائري، والآغا بزرك الطهراني.
وفي الكتاب إشارة إلى علماء لم يكن معهودا لدى الأذهان بلوغهم الشهادة مثل الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان، وقد طبع الكتاب في النجف الأشرف عام 1355هـ.
3 – تحقيق كتاب كامل الزيارة لابن قولويه المتوفى سنة 367 هـ، ولقد تحرى فيه العلامة الأميني غاية الصحة في طباعته ومقابلته مع نسخ عديدة، منها نسخة عتيقة مكتوبة في أوائل القرن التاسع ونسخة عتيقة مصححة من قبل المحدث النوري، بالإضافة إلى تصحيح الأحاديث متنا وإسنادا مع الكتب المتأخرة الناقلة عنه كوسائل الشيعة وبحار الأنوار، مع بعض التعليقات المهمة، وقد فرغ منه عام 1356هـ.
4 - أدب الزائر لمن يمم الحائر: وهي رسالة مختصرة فيما ينبغي أن يتحلى به زائر سيد الشهداء عليه السلام من آداب، وقد طبع في النجف الأشرف سنة 1362 ه.
5 - سيرتنا وسنتنا: وهو عبارة عن محاضرات ألقاها ثم تم تدوينها، وسبب كتابته للكتاب أنه حينما كان يتجول في مكتبات سوريا عام 1384هـ لاستنساخ وتصوير الكتب التي تلزمه لمكتبة أمير المؤمنين (ع) التي أسسها التقى في مكتبة دار الكتب الوطنية بحلب بأحد أساتذتها، وقد اعترض على غلو الشيعة في حب أهل البيت (ع)، وكان اعتراضه مركزا على المآتم الحسينية والالتزام بالسجود على التربة الحسينية، وقد وثق العلامة الأميني بالمصادر بأن رسول الله (ص) أقام أربعة وعشرين مأتما على سيد الشهداء في بيوت زوجاته وفي مسجده، وفي أماكن أخرى بحضور الصحابة، وطبع في النجف الأشرف سنة 1384 هـ.
وقد طبعت بعض محتويات هذا الكتاب بصورة مستقلة مثل: السجود على التربة الحسينية.
6- ثمرات الأسفار: ويحتوي على مقتطفات من الكتب التي طالعها بمكتبات الهند وسوريا وإيران، وكان قد وضعها لتكون مادة لتكملة ما تبقى من أجزاء الغدير، غير أن الأجل أدركه، وقد قامت لجنة التحقيق في مركز الأمير (ع) لإحياء التراث الإسلامي بتحقيقه وتبويبه في أربعة أجزاء، وطبع عام 1428هـ في بيروت .
7 – فاطمة الزهراء (ع): وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات الفارسية التي كان يلقيها في طهران أثناء سفره إليها في الصيف فترة تواجده في النجف الأشرف، وقد جمعت بعد تفريغها من الأشرطة المسجلة بشكل كتاب (في الانترنت)، وقد تصدى لهذا الجمع: حبيب جايجيان، والقسم الأول من هذا الكتاب عبارة عن الآيات النازلة في الزهراء (ع)، والثاني منه عبارة عن الروايات الواردة في الزهراء (ع) وقد صنفها إلى 15 موضوعا، ثم ختم بذكر 40 منقبة للزهراء (ع) تثبت أن لها خصوصيات مقام الولاية.
8 – تفسير آيات متعددة من القرآن الكريم، مثل تفسير آية الميثاق (الأعراف/172)، وقوله تعالى: (غافر/11)، وقوله عز وجل: (الواقعة/7)، وقوله تبارك وتعالى: (الأعراف/180).
9 – "شهر في اصفهان" وهو كتاب بالفارسية، ويحتوي على تدوين لخطبه التي ألقاها في اصفهان خلال سفره إليها للتبليغ.
مؤلفاته المخطوطة:
أما الكتب المخطوطة التي لم تطبع فهي:
1 - تعاليق في أصول الفقه على كتاب "الرسائل " للشيخ الأنصاري.
2 - تعاليق في الفقه على كتاب "المكاسب" للشيخ الأنصاري.
3 - كتاب "المقاصد العلية في المطالب السنية"، وهو عبارة عن أبحاث مهمة في تفسير بعض الآيات القرآنية.
4 - كتاب "رياض الأنس"، وهو في جزأين ضخمين، والأول منه في بعض الآثار الفكرية من النظم والنثر، العربي منه والفارسي لجمع من أعلام الشعر، بالإضافة إلى بعض الحوادث التأريخية، أما الثاني فيحتوي على مقتطفات من التفسير والحديث والتأريخ والآراء والمعتقدات، وهي مذكرات كتبها لبحوث أجزاء كتابه " الغدير " خلال مطالعاته.
5 – "رجال آذربيجان"، وفيه ترجمة لمائتين وأربعة وثلاثين عالما وأديبا وشاعرا من رجال آذربايجان، مرتبا على حروف التهجي، أولهم: ميرزا إبراهيم بن أبي الفتح الزنجاني، وآخرهم: عز الدين يوسف بن الحسن التبريزي الحلاوي.
6 – رسالة في النية.
7 – رسالة في حقيقة الزيارة، وقد كتبها جوابا لبعض علماء باكستان.
8 – المجالس، وهو قيد التحقيق.
تسمية كتاب الغدير:
يعد كتاب "الغدير في الكتاب والسنة والأدب" من أهم مؤلفات العلامة الأميني على الإطلاق، بل أن شهيد المحراب السيد محمد علي القاضي التبريزي قال أنه لم يؤلف نظيره في الإسلام حتى اليوم.
يقول الشيخ علي الدواني:
"كنت ذات يوم في إحدى المجالس، وكان الميرزا محمود الكاتب التبريزي حاضرا، فقال: كتب العلامة الأميني كتابا في ستة أجزاء باسم "شعراء الغدير"، وأخذه معه إلى آية الله السيد أبو الحسن الاصفهاني ليكتب له تقريظا، فشطب السيد الاصفهاني بقلمه كلمة: (شعراء) وقال: اسم (الغدير) كاف".
وبهذه الالتفاتة المهمة من المرجع الكبير السيد أبي الحسن الاصفهاني أصبح اسم الغدير هو العنوان والمحور الذي يدور عليه الكتاب.
مدة تأليف الغدير:
يقول الشيخ رضا الأميني:
"وقد استغرق تأليفه نصف قرن من الزمان تقريبا، وكان يستوعب كل وقته يوميا إلا خمس ساعات منها يأخذ فيها قسطا للنوم والراحة. ومع ذلك كان يرى كل عنت ومشقة وتعب في هذا الطريق هو راحة لنفسه، لأنه يوصله إلى هدفه".
دوافع تأليف الغدير:
يقول النجل الأكبر للعلامة الأميني الشيخ الدكتور محمد هادي الأميني:
"سألت سماحة الشيخ الوالد ذات مره عن البواعث التي دفعته إلى الكتابة بصورة عامة، وتأليفه كتاب " الغدير " بصورة خاصة، على رغم كثرة بحوثه العلمية، لا سيما في علوم التاريخ والأدب والاجتماع، إلى جانب مواصلته في بحوث الفقه والأصول، دراسة وتدريسا.
أجابني (رحمه الله) بقوله: عندما أنهيت دراستي العالية أخذت على نفسي أن لا أعيش على الحقوق الشرعية، وأن لا أستلم الرواتب الشهرية التي يستلمها طلاب وأساتذة الحوزة العلمية، وأن أعمل وأعيش من مجال دراستي واختصاصي في حقلي البحث والتأليف والتحقيق، لذا توجهت إلى لثم أعتاب مرقد الإمام الطاهر أمير المؤمنين (عليه السلام). وبعد أداء مراسيم الزيارة، وقفت جانبا من الحرم المطهر، وصرت أعرض فكرتي على الإمام علي (عليه السلام) وأستلهم من مثاليته وحيويته الزخارة وهداه المستقيم.
وهناك جالت في ذاكرتي مواضيع شتى، ومشاريع متعددة، غير أني وجدتها صغيرة أو مطروقة، ورغبت أن أقوم ببحث ومشروع يخلده التاريخ، وتتشدق به الأجيال، وتستفيد منه القرون.
ثم عرضت لي فكرت أن أكتب عن شخصية من رجالات العالم، وقابلتهم مع شخصية باب علم الرسول (ص)، فرأيت الجميع اتجاه الإمام أمير المؤمنين (ع) ذرة أمام طود شامخ، ولا يوجد أي نسبة قياس بينه وبينهم لأنه كان الإسلام المتحرك، والنموذج المتكامل، والمثالية الفذة في التاريخ بعد النبي الأقدس صلوات الله عليه، على الرغم من حساده وأعدائه الذين لم ينصفوه، وقابلوه بالنكران والنسيان، وما لاقاه على امتداد التأريخ، فعند ذلك شمرت عن ساعد الجد، وجندت نفسي وقواي للذب عنه وعن بيضة الإسلام، وأوصيك يا ولدي أن تكون كما أنا وتفعل كما فعلت".
ويقول نجله الآخر الشيخ رضا الأميني وهو يحكي جانبا آخر من أسباب تدوين الغدير:
"إن أحد أسباب ذلك هو صدور كتاب في مصر ينال من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ويتهمهم بعدم تقديم أي شيء للإسلام، واتهامات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. وهذا ما حدا بشيخنا الوالد إلى تأليف كتابه القيم " شهداء الفضيلة " ذكر فيه مائة وثلاثين عالما من أجلاء علماء الشيعة الذين استشهدوا، ابتداء من القرن الرابع، في سبيل نشر الإسلام والدفاع عنه، ثم صمم بعد ذلك على تأليف كتاب، بل موسوعة يعرض من خلالها الوجه الحقيقي الناصع لشيعة أهل البيت، ويبين للعالم الإسلامي حقيقتهم ويدفع عنهم التهم والافتراءات والأكاذيب الباطلة، لأجل ذلك قام بتأليف كتاب الغدير".
أجواء تأليف الغدير:
أما أهم الأجواء التي رافقت تأليف الغدير فهي علامات الإخلاص البادية في روحية المؤلف والعناء الشديد الذي تحمله في هذا الصدد كالسفر لمدن أو دول أخرى لتحصيل بعض المصادر، وأكتفي بنقل حادثين في هذا الأمر:
أما الأول فما قاله نجله الشيخ محمد هادي الأميني: "وكان (رحمه الله) يقضي الساعات الطوال في مكتبته الخاصة في داره بين الكتب التي يملكها أو يستعيرها، وكان يوصي زوجته وأطفاله أن لا ينتظروه على الطعام، وكنا كثيرا ما نضع طعامه على الموقد بغية أن يتناوله متى ما فرغ من بحثه وتحقيقه، ولما نستيقظ صباحا نجد الطعام على حاله كما وضعناه، وربما احترق بعضه، حتى أثر ذلك في جسمه وابتلي في أواخر عمره بسرطان في الفقرات، هذا ما أكده الطبيب المعالج له في طهران، قال: إن ذلك ناشئ من كثرة الانحناء والعكوف على القراء".
أما الحادث الآخر فهو أن العلامة الأميني (قد) كان مشغولا في تأليف موسوعته "الغدير"، وقد وصل إلى طريق مسدود فيما يرتبط بفصل مهم من فصول الكتاب، لأن الكتاب الذي فيه تتمة بحثه مفقود وتعطل البحث لفقدان الحلقة التي تربط سلسلة أحاديثه بعضها بالبعض. ولما عجز عن ذلك قصد كعادته حرم أمير المؤمنين (ع)، واقفا أمام الضريح المطهر شاكيا إليه معاناته في الحصول على هذا المصدر.
وفي اليوم الثاني زاره العلماء والفضلاء، فأخذ يسألهم عن الكتاب المفقود، فقال أحدهم: الكتاب الذي تبحث عنه في الأعظمية في بغداد (وهي منطقة يقطنها في الغالب أهل السنة) عند أحد علمائها، وهو متعصب جدا وناصبي، بالإضافة إلى أنه ضنين بكتابه لا يعيره لأقرب المقربين إليه، فكيف تستطيع الحصول عليه؟!!
قال العلامة الأميني (قد): أستعين بالله عليه، قال: في اليوم الثاني عزمت السفر إلى الكاظمية، وكان ذلك في شهر رمضان والوقت صائف وحار جدا، خرجت من النجف الأشرف فجرا قاصدا زيارة سيد الشهداء (ع) في كربلاء، وكنت صائما ثم فطرت على الماء فقط، ومن ثم قصدت الإمامين الجوادين (ع) في الكاظمية، وبعد أداء مراسم الزيارة توجهت إلى الأعظمية، لأبحث عن الكتاب المفقود وصاحبه. وصلت الأعظمية ضحى، سألت عن دار الشيخ فدلني أحدهم عليه، فلما طرقت الباب خرج الشيخ بنفسه، وما أن رأيته سلمت عليه مصافحا وأقبلت عليه معانقا، فبهت الرجل واستوليت على كيانه ومشاعره، قلت له: علمت أن في مكتبتك الكتاب الفلاني، وقد جئت من النجف لأطالعه وأقرأه، أخذ الرجل وبهت ولم يحر جوابا، وبحكم الهيمنة عليه ما استطاع أن يعتذر مني أو يردني، فقال: تفضل شيخي واصعد إلى المكتبة لتطلع على ما تريد، وصعد معي.
قال العلامة الأميني: دخلت المكتبة وشاهدت الغبار يعلو جميع أجزاء المكتبة، والكتب مبعثرة هنا وهناك، وكأنها مهجورة منذ زمن بعيد ولم تمسها يد منذ أشهر وربما سنين، تركني صاحب المنزل وحدي ونزل، عند ذلك فتحت حزامي ووضعت عمامتي وقبائي فيها وغطيتها عن الغبار، وابتدأت بتنظيف الكتب، وإزالة الغبار وعزلها، وأنا أتصبب عرقا من شدة الحر والجو الخانق، لا مروحة، ولا ماء، حتى ولا طعام، واختلط الغبار بالعرق على رأسي ووجهي وأطرافي، وأنا مشغول في مطالعاتي واستنساخي، حتى العصر وأخذني الإعياء، ولم أصل فريضتي الظهر والعصر، ولا مر علي أحد، وقد احتجت إلى الماء لأشرب وأتطهر.
عند ذلك طرقت الباب الداخلي فجاء الشيخ والنعاس في عينه فارتبك لما رآني بهذه الحالة، ثم قال: أنت لا تزال هنا؟!! وما هذا الغبار الذي يعلو رأسك ووجهك، فو الله لقد نسيت أنك لا تزال هنا بهذا الحر ونسيتك تماما، وقد تناولنا الغداء ولم يبق عندنا شيء نقدمه لك من الطعام إلا القليل، قال الشيخ: لا بأس عليك، آتني بماء لأشرب وأتوضأ، فنزل مسرعا وجاء بالماء، وبعد أن أتم الشيخ صلاته جاءه بالطعام معتذرا لقلته، وقال: هذا الذي فضل من غدائنا مما يدل على أن شهر الصيام لم يصل إلى دارهم بعد".
موانع تأليف الغدير:
أما فيما يخص بعض الموانع التي كادت أن تقف في طريق تأليف الغدير لولا لطف الله عز وجل وقوة احتجاج العلامة الأميني ما نقله الحاج حسين الشاكري بالقول:
"حدثني العلامة الأميني (قدس سره) في داره بالنجف الأشرف، أو في داري ببغداد سنة 1965 م، لا أتذكر ذلك أنقلها بالمعنى: قال:
اجتمع بعض المعممين من رجال الدين من أبناء العامة، وبعض من الشخصيات المرموقة في أجهزة الدولة، ومن العسكريين، والقضاة حينذاك وغيرهم. اجتمعوا بالحاكم الطائفي "نور الدين النعساني" بعد أن طغى وتجبر بأحكامه العرفية بالأبرياء من الشباب المؤمنين، حينذاك، وطلبوا منه إحالة "العلامة الأميني" على القضاء ومحاكمته بإثارة الطائفية، والتفرقة بين المسلمين بسبب تأليفه كتاب "الغدير" الذي أثار الشبهات على الخلفاء الثلاثة بأحاديث الغدير وغيره.
وأخذ هؤلاء النفر يحرضونه على الانتقام منه عن طريق القانون، قال الحاكم "النعساني": آتوني كتابه حتى أقرأه ثم أجيبكم على طلبكم، فلما جاءوا إليه بالأجزاء المطبوعة من كتاب "الغدير" طلب منهم مهلة ليقرأها، وليجد بعض الثغرات القانونية، وليقدمه إلى المحاكمة ويحكم عليه بأقسى مواد القانون دون رحمة أو شفقة.
مرت أيام وتبعتها أسابيع و"النعساني" لم يتطرق إلى كتاب "الغدير" بشيء، على الرغم من الاجتماع بهم الذي كاد يكون يوميا، ولما طال بهم الانتظار طالبه بعضهم بالجواب.
قال: باستطاعتي الحكم عليه بالإعدام وتنفيذه وحرق كتبه ومصادرة أمواله وكل ممتلكاته، وإجراء أشد التنكيل به وبمن يلوذ به بشرط واحد، هل تستطيعون تحقيقه؟ فتحمس المجتمعون وقالوا كلهم: نعم ننفذ ونحقق كل ما تطلبه منا، عند ذلك قال: الشرط هو أن تحرقوا جميع مصادركم ومسانيدكم وكتبكم وصحاحكم، حتى لا تكون له الحجة علينا عند تقديمه للمحاكمة، فبهت الذين ضلوا وانحرفوا وقالوا مستفسرين: كيف يمكن ذلك؟! قال: لأن جميع الأحاديث والروايات التي نقلها هي من صحاحكم ومسانيدكم و ...