شهد العقد الأخير من القرن العشرين العديد من التغييرات الدولية التي أدت إلى نهاية المواجهة بين القطبين المتصارعين، المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، الذي اعتبر سقوطه وتفكك أجزائه وانهيار الإيديولوجية الشيوعية التي كانت تحكمه في أغلب المجالات، حدثاً مفصلياً في تاريخ العلاقات الدولية، نقل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية بزعامة أمريكية، وفي ظل هذه المتغيرات واجهت روسيا، التي ورثت القسم الأكبر من تركة الاتحاد السوفياتي، العديد من المعضلات في بيئتها الداخلية والخارجية، فعلى المستوى الداخلي برز التفكك المؤسساتي الكبير وحالة عدم الاستقرار السياسي نتيجة لتزايد الحركات المطالبة بالانفصال، وذلك كله في ظل الظروف والأزمة العامة التي شهدها المجتمع الروسي، حيث تراجع الأداء الاقتصادي وظهرت قوى سياسية جديدة في المجتمع تطالب بالتحول نحو سياسات خارجية جديدة، أما على المستوى الخارجي فقد اصطدمت روسيا بمعضلة كيفية صياغة سياسة خارجية جديدة في ظل حالة الانهيار الشامل لحلف وارسو "إرث" الاتحاد السوفيتي من ناحية، وفي ظل نظام عالمي جديد أخذت تحكم السيطرة عليه الولايات المتحدة من ناحية أخرى، فضلاَ عن مسألة صعود قوى دولية جديدة وأحلاف في المنطقة أصبحت تفرض على روسيا تبني سياسات تتماشى والوضع الجديد، مثل دول الاتحاد الأوروبي والصين وإيران والهند وتركيا و"الكيان المؤقت" بالإضافة إلى النمور الاسيوية.
ورغم أن دعاية المنتصر والضخ الاعلامي الغربي المكثف عززا الكثير من الاعتقادات التي سادت في الاوساط السياسية والنخبوية إبان انهيار الاتحاد السوفيتي بأن روسيا لم تعد قطبا في النظام الدولي، ولم تعد حتى دولة مؤثرة فيه، فإن جانباً كبيراً من ذلك كان مخالفاً لمعطيات الواقع الدولي المغيبة، التي دائما ما تفرض تحديات جديدة من شأنها أن تجعل الجميع يعيد النظر في ثوابته ومعتقداته، وذلك لأن ثمة ثوابت وحقائق موضوعية ومعطيات جيوسياسية لا تنال منها متغيرات الزمن.
ومن خلال التداخل الحاصل بين المستويين (الوقائع والثوابت) حاولت روسيا التخفيف من حدة الازمات الداخلية بإعادة صياغة أهداف سياستها الخارجية في محاولة منها لاستعادة المكانة التي كان قد تبوأها الاتحاد السوفيتي السابق في مرحلة الحرب الباردة، مع إحداث بعض التغييرات الجوهرية في هذا التطلع، بحيث تتفق مع الوضع الجديد ليمكنها من تحقيق طموحاتها في عصر العولمة وحرية الاسواق، فقد اعتمدت روسيا في سياستها الخارجية عدة دوائر، تستند إلى مراحل نموها ومدى استقرارها السياسي والاقتصادي، وفي كل هذه الدوائر كان الهدف الاساسي هو تحقيق الاستراتيجية الأمنية الروسية بعيدة المدى.
وقد صاحب ذلك مجيء "فلاديمير بوتين" إلى السلطة وتبنيه لتوجهات جديدة في الاستراتيجيا والسياسة الخارجية الروسية، تهدف إلى إعادة إحياء الدور الروسي في النظام الدولي من جديد، وتعزيز فاعلية الدور الروسي في استعادة بعض مواقع النفوذ التي فقدتها منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وتصحيح الخلل في التوازن مع الولايات المتحدة الامريكية إلى علاقة متكافئة بين ندين وشريكين على قدر من المساواة في إطار نظام متعدد الاقطاب، و أمام هذه الطموحات والتوجهات تمت إعادة بلورة وصياغة اتجاه جيوبوليتيكي روسي قديم، جرى تحديثه ليتلائم مع فضاء أوراسي جديد تتشابك فيه المصالح وتتصاعد حدة الازمات أو تتفاعل وفقاً لأهداف التغيير المنشود.
بعد تولي الرئيس فلاديمير بوتين السلطة في نيسان 2000، اعتمد استراتيجية تهدف لدعم سلطة الدولة المركزية وتقوية قدراتها الاستراتيجية محاولا بناء مكانة روسيا كدولة إقليمية كبرى في المنطقة تفرض بها على الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي التعامل باحترام، وبالتحول التدريجي لروسيا من دولة ضعيفة في فترة التسعينيات إلى دولة فاعلة في النظام الدولي، تدخل المصالح الوطنية ومناطق النفوذ من ضمن أولوياتها الامنية.
استمرت السياسة الخارجية الروسية خلال الحقبة البوتينية في تطوير نهج جديد يتواءم مع الاستراتيجية العليا للدولة من خلال إعادة هيكلة سياستها، محاولة بذلك إحداث العديد من الاصلاحات السياسية والاقتصادية، وقد واجهت روسيا في المجال الخارجي العديد من الازمات في الفترة الممتدة من 2002-2015 كان أبرزها الازمتين الاوكرانية والسورية اللتين تعدان محط خلاف وصراع القوى الكبرى. وأدى هذا النهج الجديد في السياسة الخارجية إلى تغييرات جوهرية في الحراك الروسي العالمي الذي كان قد انكفأ بين عامي 1996 و2001، ليعاود حضوره بقوة عام 2004 بعد ثلاث سنوات من مجيء بوتين الذي احتاج بدوره لعامين لتحويل استراتيجية الدولة من الورق إلى الواقع. وكأمثلة سريعة على التحول الكبير في التوجهات الروسية نعرض بعض الأزمات التي تفاعلت معها روسيا قبل وبعد مجيء بوتين وإطلاقه لسياسته.
روسيا التي تخلت عن واجباتها الأمنية خلال حرب كوسوفا عام 1999 التي أفضت إلى إسقاط النظام اليوغوسلافي الحليف، وسمحت بمحاصرة إيران في مجلس الأمن الدولي من خلال ملفها النووي عام (2002-2003)، ولم تكن قادرة على منع سقوط العراق عام 2003 في يد الولايات المتحدة الأمريكية، هي نفسها روسيا التي عاودت الانتفاض والتدخل بعد بناء ما يلزم من متطلبات القوة العالمية، فضاعفت نفوذها وراكمت أوراقها الاستراتيجية المؤثرة من خلال الأزمات التي دست لها في حيزها الأقرب، أي دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي السابق، فدخلت بقوة في صلب الصراع العالمي بدءاً من:
○ العام 2008 حين سحقت محاولة تسلل أطلسية لتطويقها من جمهورية جورجيا.
○ أعادت التدخل في أوكرانيا عام 2014 بعدما جدد الأطلسي محاولة تسلله من خلال قوى محلية عبر الاطاحة برجل موسكو القوي في أوكرانيا الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش، وكان الرد على خلعه من قبل الثورة الأوكرانية الملونة بدعم غربي كامل بقيام روسيا بانتزاع رئة أوكرانيا الاقتصادية في إقليمي القرم ودونباس.
○ دخلت روسيا بثقلها الديبلوماسي والمعنوي إلى جانب الدولة السورية بعد أحداث 2011 وصولاً إلى تدخلها العسكري المباشر دفاعاً عن الدولة السورية عام 2015.
○ قاتلت في المحافل الدولية ديبلوماسياً في مجلس الأمن وفي مفاوضات 5+1 إلى جانب إيران وملفها النووي السلمي منذ العام 2010 حتى أنجزت إتفاقية "الإطار المشترك" التي شرعت البرنامج النووي الايراني السلمي.
وشكلت تلك الأزمات المتتابعة مسرحاً للتجاذبات الحاصلة بين مختلف القوى الفاعلة والرئيسية في النظام الدولي، لنكون أمام أزمة دولية تهدد بانفتاح عالمي على المواقف والتدخلات. يعبر الكثير من الخبراء والمحليين عن هذه الازمات وما تحمله من تحديات جيوسياسية، أمنية واقتصادية على أنها عودة للحرب الباردة من جديد بين قوى رئيسية عظمى في النظام الدولي وقوى فاعلة تزاحم مكانتها بسياساتها الخارجية وخططها الاستراتيجية.
ولقد تجسدت أهداف السياسة الخارجية الروسية بالسنوات ال 20 الماضية بالتطبيقات التالية:
○ تجنب الحرب النووية لتكون صاحبة الضربة الاولى في حال تم تهديد وجودها أو أمنها القومي المباشر.
○ إعادة هيبتها كدولة عظمى والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها (ويعتبر هذا أهم هدف سعت إليه روسيا الاتحادية).
○ السعي إلى تعزيز نفوذ روسيا في الفضاء السياسي للاتحاد السوفيتي السابق.
○ إنعاش الاقتصاد الروسي (السلاح – النفط والغاز – السياحة والبنية الصناعية المدنية والعسكرية).
○ تطوير آليات بحثية وصناعية للحصول على التقنيات المتطورة وتعزيز التقانة وتطويرها في شتى المجالات.
○ انهاء الانفراد الامريكي بموقع القمة العالمية.
○ بناء علاقات تحالف وتعاون مع الدول الصناعية المتقدمة والقوى الإقليمية القديمة أو الناشئة.
مما تقدم جاءت خطوات الناتو المستمرة للقبض على قرار اوكرانيا مهددة لكل السياق الذي عمل عليه بوتين خلال 20 عاماً، مما اضطره في النهاية للدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة على كل الاحتمالات مسرحها الرئيسي أو كرانيا.
النجاح أو الفشل الروسي في أوكرانيا سيحدد الأمن الأوروبي لعقود
أظهرت الحرب العسكرية الروسية في أوكرانيا، بقصد معلن يتمثل في إجبار أوكرانيا على الابتعاد عن تطلعات عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي والاعتراف بمطالبة روسيا بشبه جزيرة القرم، القيود الصارمة التي تفرضها القوات المسلحة الروسية نتيجة لهذه العملية.
يمتد تأثير الحرب في أوكرانيا إلى ما هو أبعد من أمن وسيادة أوكرانيا نفسها. بينما من الواضح أن الاستجابة العالمية للحرب لها تأثيرات كبيرة على الاقتصاد العالمي، حتى على المستوى العسكري البحت، أصبحت المعركة من أجل أوكرانيا فعليًا نقطة انعطاف في ميزان القوى العالمي.
ستحدد نتيجة الحرب في أوكرانيا علاقات القوة الصارمة على المستوى الاستراتيجي الدولي لعقود قادمة، ويجب فهم نسبة تأثيرها المستقبلي جيدًا لتوجيه خيارات السياسة على المدى القصير.
حدود القدرة العسكرية لروسيا انطلاقاً من التجربة الاوكرانية الحالية
لفهم هذا التأثير، من الضروري فهم حجم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مقارنة بالقدرة الكاملة للقوات المسلحة الروسية. حجم الأصول الأرضية في الوقت نفسه. يعد الالتزام الروسي الحالي بهذه الحرب في أوكرانيا أمرًا غير مسبوق ويتجاوز بالأرقام الأولية الحرب في أفغانستان من 1979 إلى 1989 وحربي الشيشان خلال التسعينيات. من الناحية النسبية، فإن حجم حرب أوكرانيا أكبر، مع الأخذ في الاعتبار الانخفاض في الحجم الذي شهدته القوات المسلحة الروسية منذ هذه النزاعات السابقة.
في هذه المرحلة، إن عناصر المناورة الأرضية الروسية ونيران الدعم - وحدات المشاة والمدرعات التي تقوم بالقتال، بالإضافة إلى وحدات المدفعية التي تدعمها - المنتشرة في أوكرانيا تمثل في مكان ما بين ربع وثلث القوة الكاملة. قدرة الحرب البرية للجيش الروسي النظامي (بدون حساب وحدات الاحتياط التي يبلغ تعدادها ملايين الأفراد المدربين تدريباً جيداً).
وهذا يعني، من الناحية الواقعية، أن روسيا تقترب من الحد الأقصى من الالتزام المستدام لقواتها البرية النشطة. بالإضافة إلى العمليات في مسرح أوكرانيا، فإن لدى روسيا أيضًا:
○ مطلبًا للحفاظ على القدرة العسكرية للأمن على طول مناطقها الحدودية الأخرى.
○ حاجة لضمان الأمن الداخلي في حالة تفشي الاحتجاجات.
○ لا تزال موسكو بحاجة إلى حماية حدودها مع فنلندا ودول البلطيق، حيث يمكن أن تخشى الصراع المحتمل مع الناتو.
○ لدى روسيا مطالب ضرورية للاحتفاظ بالقدرة على التدخل أو الدفاع في منطقة القوقاز، حيث تحدت جورجيا وتركيا نفوذها في الماضي.
○ الأحداث الأخيرة في كازاخستان وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان تولدان أيضًا تهديدات أمنية محتملة في آسيا الوسطى يجب أن تكون روسيا مستعدة لمواجهتها عند الحاجة.
○ تحتاج روسيا قدرة عسكرية في الشرق الأقصى لتأمين مطالبتها بجزر الكوريل، والاحتفاظ بالقدرة على التدخل أو دعم كوريا الشمالية في حالة الصراع، وحتى الحفاظ على موقف دفاعي أساسي على طول حدودها مع الصين على الرغم من إيجابية علاقتها مع بكين.
بصرف النظر عن النطاق الواسع من المتطلبات التي تستنزف من قدرة روسيا العسكرية، فإن المستوى العالي من التزام القوات البرية الروسية بالصراع في أوكرانيا مثل أيضًا للمخططين الروس عددًا من المخاوف العسكرية الفنية خلال التحضير للعملية وعند نشر القوات بعد انطلاقها بأيام. على الرغم من أن روسيا توقعت على الأرجح أن تكون عمليتها في أوكرانيا صراعًا قصيرًا ومكثفًا نسبيًا، بدليل أن اغلاق الاجواء وبعض الاجراءات الاحترازية التي اتخذها الروس على الحدود في المدن الروسية القريبة حددت الثاني من آذار 2022 موعداً أقصى لانتهاء العملية سمكن تمديده 10 أيام إضافية.
كانت المرحلة الافتتاحية للحرب ممتازة حقق فيها الروس الصدمة والترويع للقيادة الاوكرانية وللناتو ومن ورائه أمريكا وبريطانيا، كما حققوا بعدد من الكتائب التكتيكية وافواج الابرار الخاصة المظلية والبحرية أهدافاً تكتيكية سريعة وغاية في الأهمية، حيث استطاعوا انتزاع المبادأة وتنظيم تعاون ممتاز بين القوات بمختلف صنوفها والتحرير السريع لقسم كبير من مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك، وتحييد مفاعل تشيرنوبيل في الشمال، وتأمين متكأ لما يزيد عن فرقتين في مناطق في شمال وشرق العاصمة كييف، مما أمن الأرضية لانطلاق المرحلة الثانية من العملية الخاصة التي اندفعت فيها قوات الضربة الرئيسية وهي فرق المدرعات والمشاة الميكانيكية والسلاح الآلي وبعض الافواج الخاصة للاندفاع السريع، وتنظيم عمليات تطويق وعزل لقوى الدفاع الرئيسية الأوكرانية، التي حشد معظمها في الشرق والجنوب فجرى تطويق ماريبول وخاركوف وسومي وخيرسون، وبقيت القوات ضمن حدود لم تتعدى أبعد نقطة خرق فيها 50 كيلومتراً، وهذا ما يعتبر في منطق تشغيل القوات وفق المدرسة العسكرية الروسية ضمن تشكيل تكتيكي حتى ولو تضمن عدة فرق عسكرية، إلا أن بعض الصعوبات واجهت بعض التشكيلات المتحركة عندما اندفعت لتنفذ العملية العميقة، والتي استفادت من موفقية المرحلة الثانية لتباشر المرحلة الثالثة والنهائية من العملية.
عانت معظم القوى التي تقدمت من نفس المشكلة وهي الصعوبات اللوجستية وتراجع القدرة على استثمار المعلومات الفورية لإبعاد التهديدات أو لتجنبها عن طريق المناورة، وذلك لأسباب موضوعية فنية تعود لتفكيك الاوكرانيين معظم كتلهم الدفاعية التي تزيد تبعيتها عن كتيبة، واستخدام ميزة معرفتهم بالجغرافيا العسكرية لبلادهم لتطبيق عمليات دفاع محلية اعتمدت على أسلوب قتال المفارز الإيذائي بأسلحة مناسبة وقاتلة، تم الحصول على معظمها في الايام الأولى من الناتو، واستفادت القوات الاوكرانية أيضاً من السبخات والاراضي الموحلة والغابات والممرات الالزامية لتعيق بجهد ناري بسيط وصول القوات بالزخم والتوقيت المناسبين.
هذا التكتيك الذي اعتمده الاوكرانيون حرم الجيش الروسي في كثير من المعارك الصغيرة من التعامل مع نقاط ثقل أوكرانية يمكن أن تؤثر على خط سير المعركة الرئيسية، مما فرض على القوات الروسية في عدد من الاشتباكات معالجة هذه العقبات بما يلزم من مناورة ونار وإضاعة أوقات ثمينة لتحقيق أغراض تكتيكية صغيرة، أثبت الواقع الميداني أن هذا قد يمتد بهم إلى عملية تستغرق عدة أشهر، إن لم يكن أطول. وسوف يتعين على الجيش الروسي في مرحلة ما أن يبدأ بتناوب القوات داخل وخارج الميدان، إلا أن الروس اعتمدوا على حل قديم هو بالأصل غربي ولكنه مبدع حيث بدأوا باعتماد قتال الأنساق مضافاً إليه إغراق الميدان بأعداد كبيرة من القوات الخفيفة والخاصة المدربة للتعامل مع هكذا تهديدات.
في سيناريو هجين ولكنه نموذجي، قضى بأن يدفع المخططون العسكريون الروس بقوة مناسبة عملياتياً تفوق الخصم بثلاثة أضعاف. لهذا بالنسبة لكل وحدة يتم نشرها في المعركة، ستستعد وحدة أخرى للانتشار لتحل محلها، بينما سيتم اعتبار الوحدة الثالثة العائدة من ساحة المعركة خلال فترة استراحتها احتياطياً إستراتيجياً بمعدات لا تحتاج كثيراً لإعادة تأهيلها. وهذا ما يحرم مخططي الحرب الاوكرانيين ومن ورائهم من عقول الناتو العسكرية من الأفضلية، حيث قدروا أن ذلك سيمثل عائقًا رئيسيًا لقدرة روسيا على مواصلة العمليات على مدى فترات زمنية أطول، لأن القدرة الصناعية العسكرية الروسية محدودة للغاية برأيهم في استبدال المعدات المفقودة في ساحة المعركة. وحيث أن الجيش الروسي يحتفظ بمستويات عالية من المعدات الاحتياطية، فإن مخططي الناتو افترضوا أن إعادة تخزين الوحدات النشطة سيعني في معظم الحالات خفض مستوى المعدات القديمة والأقل تطورًا. في الوقت نفسه، فإن السحب من المخزون الاحتياطي واستنزافه يبتعد أيضًا عن قدرة روسيا على تجهيز وحدات احتياطية إذا كان سيتم تعبئتها.
النتائج الواقعية للمعركة
بالنظر إلى الأداء العسكري الروسي في أوكرانيا حتى الآن، وعلى الرغم من حجم القوات الملتزم بها، يمكن إلى حد ما تحييد عدد من السيناريوهات الكارثية المحتملة لنتائج المعركة، والتي تضخها منظومة الحرب النفسية وآلة التضليل الاعلامية التي تقف وراء الاوكرانيين. التي تضخ آلاف التحقيقات والاخبار والافلام الموسومة بوسم خبراء عسكريين يروجون أنه بات من غير المرجح أن ترى أوكرانيا نفسها مضطرة للاستسلام بشكل كامل وقبول المطالب الروسية كوسيلة لإنهاء الصراع. مما يفرض على روسيا تحقيق موقف مستدام عسكريًا داخل أوكرانيا يمكن من خلاله أن تختار التفاوض أو الاستمرار في الضغط من خلال صراع مجمّد.
بالعودة إلى ما أصبح اليوم في متناول يد روسيا بعد إطلاق هجومين نهائيين رئيسين أمس على ماريبول وخاركوف وبعد إنجاز تحرير الجزء الأكبر من إقليم الدونباس، وعزل كييف والبدء بتصفية كامل جيوب المقاومة شرقي نهر دينيبير أي شرق أوكرانيا كاملاً، إلا أن ذلك يبدو أنه لا يكفي بنظر المخططين العسكريين الروس حيث يبدو من استمرار اندفاع القوة الروسية الكبيرة من شمال وشمال غرب كييف جنوباً بجبهة عرضية تتفاوت بين 20 و 30 كيلومتراً على طول الضفة الغربية لنهر دينيبير لتلاقي جزءاً من القوة التي تجاوزت ميكولاييف في الجنوب والتي يبلغ استعدادها فرقة وفوجين باتجاه الشمال لتستكمل عمليتها أيضاً على طول الضفة الغربية لنهر دنيبير. وقد يتساءل المراقب لماذا نهر دينيبير، الجواب لأن طبيعة النهر التي تتصل بكييف وتمتد إلى البحر الأسود تصلح للاستفادة منها لأعمال المقاومة الاوكرانية في حال الاكتفاء باحتلال الضفة الشرقية فقط، حيث يمكن في المستقبل أن تتحرك مجموعات ومفارز مقاومة صغيرة من قلب العاصمة كييف التي يشقها نهر دنيبير، ومن أي منطقة من الضفة الغربية للنهر لتنفيذ عمليات إيذائية مستمرة ضد القوات الروسية المنتشرة على الضفة الشرقية للنهر أو في العمق الشرقي لأوكرانيا حيث ستجد نفسها في موقف دفاعي للغاية.
في القتال الحالي، تعارض وتقيد مناورات القوات الأوكرانية بعض التحركات العسكرية الروسية، في حين أن أوكرانيا قادرة على تصعيد هذا المستوى من المقاومة مستقبلاً لإبطاء تقدم روسيا، لتعويض عدم قدرتها على شن هجمات مضادة ذات مغزى من جميع أنحاء نهر الدنيبر التي ستكون محدودة للغاية. من ناحية أخرى، قد تظل روسيا قادرة على الاستمرار في دفع القتال إلى الضفاف الغربية للنهر، والاستمرار في توسيع الصراع أو قضم القوة العسكرية لأوكرانيا مع الاحتفاظ بنهر دنيبر في نهاية المطاف.
إن نجاح روسيا بتحقيق مثل هذا الموقف سيسمح لها بمنع أوكرانيا بشكل دائم من الوصول إلى موانئ بحر آزوف وضمان تدفق المياه العذبة إلى شبه جزيرة القرم عبر القناة التي تتغذى من نهر دنيبر.
من ناحية أخرى، إذا تمكنت أوكرانيا من منع روسيا من تحقيق هذا الهدف والاستمرار في مقاومة الجيش الروسي شرق نهر الدنيبر، فسيظهر مستقبل مختلف تمامًا. على المستوى العسكري، من شأن هذا أن يضع أوكرانيا في وضع يمكنها من الاستمرار بالتسبب في تآكل قدرة الجيش الروسي وربما حتى إجباره على الانسحاب تدريجياً بفعل الإستنزاف. وفي ظل نجاح مثل هذا السيناريو، لا يقتصر خيار انتصار أوكرانيا على الصراع الحالي، ولكنه قد يوفر فرصة لاستعادة معظم الأراضي الأوكرانية المحتلة بما فيها الاراضي التي تدعي أوكرانيا تبعيتها لسيادتها كإقليم دونباس وشبه جزيرة القرم.
على الرغم من قيام أوكرانيا بجهد دفاعي قوي ضد الهجوم الروسي حتى الآن، إلا أن هناك تهديدات كبيرة لقدرتها على الاحتفاظ بجهد دفاعي عسكري نشط على الضفاف الشرقية لنهر دنيبر.
ينشأ التهديد الأكثر أهمية من الانضمام إلى الجبهات مع تقدم روسيا بشكل أعمق في أوكرانيا. في منطقة لوهانسك حول سيفير ودونتسك، وكذلك في منطقة دونيتسك في ماريوبول، تمكنت القوات الروسية المتقدمة من الالتقاء مع القوات الشعبية على طول خط التماس الذي حدد الأراضي المدعومة من روسيا في شرق أوكرانيا. يشكل مزيج هذه الجبهات تهديدًا كبيرًا للموقف الدفاعي لأوكرانيا الذي تم تشكيله إلى حد كبير حتى الآن حول المواقف الثابتة المتشددة التي تواجه الجمهوريات التي يدعي الاوكرانيون أنها انفصالية. ونتيجة لذلك، تخلى الجيش الأوكراني عن أجزاء من هذه المواقع الدفاعية لصالح مواقع دفاعية جديدة لوقف تقدم القوات الروسية.
ومع ذلك، عندما يحدث هذا، ستواجه هذه الخطوط الدفاعية الجديدة القوة المشتركة للقوات الروسية المتقدمة والمقاتلين المحررين من الأجزاء المهجورة من خط التماس. على سبيل المثال، بعبارات ملموسة، حصار ماريوبول يجبر الجهد الدفاعي الأوكراني على العودة إلى خط دونيتز – زابوريزيا، حيث سيواجه كل من القوات الروسية التي تسير شمالًا من شبه جزيرة القرم والقوات التي يدعمها الروس من خط دونيتز- ماريبول السابق. يحدث تطور مماثل في منطقة لوهانسك، حيث تراجعت الجهود الدفاعية الأوكرانية بالفعل إلى سيفيرودونيتسك لكنها تخاطر بالتراجع أكثر نحو سلوفيانسك وكراماتورسك.
لا تضع إعادة تشكيل الجهود الدفاعية بالضرورة روسيا على نهر دنيبر، لكنها تمثل ضغطًا متزايدًا على المدافعين الأوكرانيين الذين يقاتلون لمنع الجنود الروس من تحقيق هذا الهدف.
يتمثل الخطر الرئيسي في إعادة التشكيل الدفاعي هذا في حالة الانهيار التدريجي المحتمل للخطوط الدفاعية. نظرًا لأن المواقف الدفاعية الجديدة تتعرض لضغوط الجهود الهجومية الروسية المشتركة، فإن استدامتها تصبح موضع شك. قد يؤدي هذا إلى انسحاب إضافي إلى الخط الدفاعي التالي.
توفر الجغرافيا الطبيعية والبشرية لأوكرانيا عددًا من المراسي لمواقع دفاعية احتياطية، مثل تلك الموجودة على طول الأنهار بين دنيبرو وخاركيف، أو ما وراء نهر فورسكلا الذي يمر عبر بولتافا. ومع ذلك، في كل مرة يتم فيها إجبار الخط الدفاعي على التراجع، سيتم تحرير قدرة روسية إضافية للانضمام إلى هذا الجهد الهجومي حيث يتم محاصرة الجبهات بهذا التقدم من الجنوب. هذا يفترض بالفعل أنه لا توجد اختراقات منفصلة من الشمال ستطوق القوات الأوكرانية لمنع انسحابها القتالي.
يمكن أن تؤدي التطورات التكتيكية في ساحة المعركة أيضًا بسرعة إلى تهديدات أخرى للجهود الدفاعية الأوكرانية. وهذا يؤكد النتيجة غير المؤكدة للمعركة على الضفاف الشرقية لنهر دنيبر، والتي ستصبح المعركة الحاسمة في تشكيل النتيجة الجيوسياسية الكاملة لهذا الصراع. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة أو الناتو، يجب أن تكون قدرة أوكرانيا على الاحتفاظ بوجود شرق نهر دنيبر أمرًا بالغ الأهمية.
تشكيل المعركة من الخطوط الجانبية
الغرب لديه مصلحة جوهرية في ضمان نتيجة مرغوبة بتحقيق توازن بين التأثير على مسار المعركة وتجنب التصعيد الخطير بعدها. لذلك فإن التركيز الرئيسي لنهجهم كان على توفير الدعم للجيش والميليشيات الأوكرانية بأسلحة فتاكة وبكل ما يحتاجوه من معاونة استخبارية واستشارية وربما على دعم التمرد الاوكراني المسلح في حالة النصر الروسي في أوكرانيا.
ويبقى الناتو مترددًا في التحرك نحو المشاركة المباشرة في الصراع في أوكرانيا؛ على سبيل المثال، رفض عرابو الناتو الرئيسيون بريطانيا وامريكا اقتراح فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا. لأن أي مشاركة عسكرية مباشرة في أوكرانيا نفسها قد تؤدي إلى انتشار الصراع التقليدي، وربما الأهم من ذلك، حدوث تصعيد محتمل نحو الصراع النووي. كان قرار روسيا بوضع قواتها النووية في حالة تأهب أعلى إشارة واضحة للغرب، مما يشير إلى أن روسيا مستعدة لمزيد من التصعيد إذا كانت الولايات المتحدة أو حلفاؤها في الناتو سيشاركون بشكل مباشر.
هناك العديد من الطرق للتأثير على المعركة على الضفاف الشرقية لنهر دنيبر دون المخاطرة بالاشتباك التقليدي المباشر ناهيك عن النووي، ومع ذلك، فإن بعض الجهود جارية بالفعل. تلقت أوكرانيا قدرًا كبيرًا من الدعم العسكري من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في شكل أسلحة صغيرة ودروع واقية وأسلحة مضادة للدبابات وأنظمة دفاع جوي محمولة (MANPADS) وأنواع مختلفة من الذخيرة ودعم استخباراتي وبالطبع الدعم المالي الخام. ولكن لكي تتمكن أوكرانيا من الصمود عمليًا في مواجهة الهجوم الروسي المستمر، قد تكون هناك حاجة إلى مزيد من الدعم المكثف.
تمكنت أوكرانيا من الدفاع بشكل جيد عن مراكزها السكانية الحضرية، ربما لأن الروس لم يبدوا اهتماماً كبيراً حتى الآن باحتلال المدن. إلا أنه خارج المدن، تستطيع القوات الروسية التجوال بحرية أكبر والتحايل على "النقاط الصعبة" الدفاعية الأوكرانية الموجودة في المراكز السكانية.
ما يفتقر إليه الجيش الأوكراني هو قدرة أكبر على المواجهة حيث أنه ورغم أن لديه العديد من الأنظمة للمساعدة في ذلك، مثل الصواريخ الباليستية التكتيكية Tochka، وعدد من أنظمة المدفعية الصاروخية ذات المدى الكبير، وأسطول من الطائرات بدون طيار والأهم من ذلك كله لديه البروباغندا التي تمجد إرادة الاوكرانيين الاسطورية للقتال، إلا أن هذه الارادة تتفاوت بين حد أدنى في صفوف الجيش وحد أعلى، ولكنه ذا طبيعة انتقامية ثأرية لدى قوات النخبة في الجيش وبين أفراد الميليشيات اليمينية.
وتظهر بعض الجهود التي تقودها واشنطن جارية لزيادة قدرات الصمود الأوكراني لأطول فترة ممكنة مثل:
○ تبادل محتمل للطائرات المقاتلة بين الولايات المتحدة وبولندا وأوكرانيا بتقديم طائرات الميج البولندية إلى القوات الجوية الأوكرانية مقابل تسليم الولايات المتحدة طائرات F-16 إلى بولندا، لكن مثل هذه الخطط بطيئة الإعداد ولا تزال تتطلب من أوكرانيا التعامل مع تحديات قدرات الدفاع الجوي الروسية والضربات الصاروخية ضد قواعدها الجوية.
○ التحايل على قرار إقامة منطقة حظر جوي بنشر منظومات باتريوت في بولندا تغطي مناطق في غرب أوكرانيا.
○ بالاقتران مع الدعم الاستخباري الجوي والفني وأسطول المراقبة والضرب التركي المتنامي من طائرات بدون طيار، سيجري تجهيز المسلحين الاوكرانيين بمعدات القتال الليلي التي يمكن أن تسمح لهم باستغلال قيود القوات الروسية في هذا المجال، وثمة حراك آخر من قبل بريطانيا يقضي بتزويد الاوكرانيين بأنظمة الدفاع الجوي لرفع قدرتهم على حرمان روسيا من حرية استخدام قوتها الجوية.
○ النظر في وسائل دعم أخرى للمجتمع الأوكراني ككل لتمكينه من مواصلة العمليات القتالية. ويجري درس أنواع الدعم الذي سيكون مطلوبًا لإبقاء المقاتلين في ساحة المعركة على مدار الساعة. ستوفر الولايات المتحدة الطعام والمواد الاستهلاكية يشكل كبير لتحرير المقاتلين من التفكير بكيفية إعالة أسرهم، هكذا دعم سيكون له تأثير كبير في تمكين تعبئة الناس في أوكرانيا وتحفيزهم على قتال الجيش الروسي. من شأن الدعم الإضافي الموجه إلى الحفاظ على لوجستيات التجارة والنشاط الاقتصادي في أوكرانيا أن يؤدي بشكل غير مباشر إلى زيادة إمكانية الحفاظ على القدرة القتالية في ساحة المعركة. وأي تخفيف للضغط اللوجستي على الاقتصاد الأوكراني، سواء من خلال توصيل الوقود أو حتى من خلال تخصيص أصول النقل مباشرة لأوكرانيا، يُترجم مباشرة إلى فعالية قتالية. وبنفس المعنى، فإن دعم أو تنظيم عمليات الإجلاء الطبي للأفراد العسكريين والمدنيين من أوكرانيا، أو إنشاء مستشفيات ميدانية، سيسمح لأوكرانيا بتحرير القدرات التي يمكن توجيهها بطريقة أخرى نحو ساحة المعركة.
إن السيناريو الذي بموجبه تلعب الولايات المتحدة أو أعضاء الناتو دورًا قتاليًا نشطًا غير مباشر لدعم أوكرانيا من المرجح أن يتغير. بالنظر للاستراتيجية الأمريكية طويلة المدى التي يمكن تحقيقها من خلال التسبب بتآكل القدرات العسكرية الروسية في أوكرانيا، إن القيام بذلك من شأنه أن يطرح العديد من التحديات بسبب الطبيعة الحساسة للوقت لتزايد مثل هذا الجهد وبسبب التكاليف المرتبطة به. ومع ذلك، فإن هذه التكاليف محدودة في مواجهة ما قد يجلبه البديل من مواجهة تقليدية. ستستمر روسيا الناجحة في أوكرانيا في توجيه التهديدات السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى أمريكا والناتو، وستنتهي بمرور الوقت باستهلاك قدر أكبر من الموارد أكثر مما قد يتطلبه أي مستوى من الدعم لأوكرانيا في هذه اللحظة بالذات.
المصدر:مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير