۴۳۱مشاهدات
رمز الخبر: ۵۰۷۵۴
تأريخ النشر: 16 April 2021

شكّلت العلاقات الاقتصادية باباً واسعاً بل فخّاً كبيراً لمختلف الدول للوقوع من خلاله في فلك التبعية للغرب، إلا أن مجموعة أخرى من الدول كانت على المقلب الآخر صامدة، رافضة للتبعية، فلم تسالم ولم ترضخ للهيمنة الاقتصادية أو السياسية تباعاً. تكمن المفارقة أن النموذج الذي مضى مهادناً لم يكن هو الرابح في هذه المعادلات العالمية؛ فقد زادت مديونياته وعجزه، وتحمّلت شعوبه فقراً وتخلفاً، وعلى المقلب الآخر بدأت الدول التي اعتمدت على نفسها وعرفت بالممانعة الاقتصادية تتحرّر من التحكم الأجنبي في اقتصاديات بلادها، فغدت قطاعاتها منتجة لتحقّق الاكتفاء الذاتي. يشكل النموذج المصري مثالاً صارخاً على تبعات التطبيع الاقتصادي والسياسي مع الغرب. وفي المقابل، يشكل النموذج الإيراني تجسيداً لرهان الممانعة والوقوف في وجه الاستكبار العالمي والهيمنة الأميركية والغطرسة الإسرائيلية. انطلاقاً من مقاربة سريعة للنموذجين، ما هي الآثار الاقتصادية للتطبيع، وما كلفة التصدي لسياسة الهيمنة؟


أولاً: النموذج الإيراني بين الممانعة ونمو الإنتاج
1) حماية الموارد النفطية
كانت حكومة الشاه بهلوي قد موّلت نفسها ورهنت الاقتصاد الإيراني لبيع النفط الخام، وقد كتب الجنرال ويليسون، رئيس المجلس الاستشاري العسكري الأميركي بشأن إيران في ذلك الوقت: «كانت إيران مركزاً جیداً لإبرام الصفقات». في عام 1976، شكّل النفط الخام ما يقرب من 93 في المئة من صادرات إيران، لكن انخفضت هذه الحصة إلى حوالى 63% في عام 2016، حيث اعتمدت إيران على قطاعات اقتصادية حيوية، دون أن يكون نظامها الاقتصادي قائماً على النفط فقط.
لقد كانت العقوبات الأميركية على النفط الإيراني، بمثابة المجازفة الكبيرة التي يبدو أنها لم تحقق أهدافها على الرغم من قساوتها وتراكمها وأدواتها الفاعلة، حيث كانت سبباً أساسياً في عزوف الكثير من الدول عن شراء النفط الإيراني. لكن تجربة الجمهورية الإسلامية مع الحصار والعقوبات، أفرزت قدرة عالية على مواجهتها وإسقاطها بتفعيل بدائل فاعلة قادرة على اختراقها أو بالحد الأدنى التغلب على تداعياتها في مجالات كثيرة. ولم تكن العقوبات الاقتصادية القاسية عائقاً حتى أمام تصدير النفط، حيث إن الأهمية الجغرافية لإيران أفشلت العقوبات على بيع النفط، كما أن نجاح بعض الدول كروسيا والصين في اختراق العقوبات شجّع دولاً أخرى كالهند واليابان مثلاً على الاستفادة من مخزون النفط الإيراني ومشتقاته.

2) زيادة الإنتاج النووي والعسكري والاستقلال التسليحي
كان التطور العلمي الإيراني في مجال الطاقة لافتاً، رغم كل العقوبات الاقتصادية، حيث غدا اسم الجمهورية الإسلامية في إيران من بين كبرى الدول المتقدمة علمياً في مختلف المجالات والاختصاصات المدنية والعسكرية.
- علوم الطاقة: تمّت ترقيتها من المرتبة الـ 55 إلى المرتبة الـ 12 عالمياً.
- علوم الطاقة: تمّت ترقيتها من المرتبة الثامنة إلى المرتبة الأولى في المنطقة.
- علوم الطاقة النووية: تمّت ترقيتها من المرتبة الـ 77 إلى المرتبة الـ 12 عالمياً.
- علوم الطاقة النووية: تمّت ترقيتها من المرتبة الـ 13 إلى المرتبة الأولى في المنطقة.
اليوم، أثبتت إيران أنها تمتلك تكنولوجيا متطورة للصواريخ الباليستية وصواريخ كروز بالإضافة إلى القدرة على تصميم الرؤوس الحربية التقليدية من خلال ضرباتها الموجهة الى منشآت النفط السعودية. هذا التطور في القوة الضاربة التقليدية له آثار على القدرات النووية المحتملة لإيران أيضاً.

3) الحفاظ على البنية الاقتصادية الإيرانية
على الرغم من العقوبات الأميركية الصارمة، إلاّ أنّ هناك صعوبة في فهم مستوى تعقيد الاقتصاد الإيراني ومدى جودته أو مدى خبرته في مقاومة العقوبات. يمكن القول إنّ الاقتصاد الإيراني اقتصاد متنوّع للغاية والصناعات التحويلية هي حقاً واحدٌ من أهم المجالات. ويشكل التصنيع حالياً حوالى خمس العمالة الإجمالية في البلاد، هذا فضلاً عن الزراعة والسياحة والطاقة وغيرها. وحسب تصنيف البنك الدولي لقياس معدل الفقر في العالم، تأتي إيران في المجموعة الثانية، أي الدول ذات الدخل فوق المتوسط.
وبينما كان 46% من الإيرانيين من الفقراء في العصر البهلوي؛ وفقاً لوثائق البنك الدولي في عام 1977 (حوالى 60% من القرويين و40% من سكان الحضر يعيشون تحت خط الفقر)؛ تظهر وثائق البنك الدولي (1986- 2014) انخفاضاً كبيراً في عدد الفقراء في إيران. وقد عملت الجمهورية الإسلامية بعد انتصار الثورة على توفير الكهرباء بنسبة 100%، وقد ذكرت ذلك دراسة صادرة عن مركز الاتحاد للأبحاث، أنه يوجد اليوم 1085 مدينة و23206 قرى يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 20 مليون أسرة متصلة بشبكة إمدادات الغاز الضخمة.

ثانياً: آثار التطبيع على الاقتصاد المصري
لم تحقق مصر من التطبيع مع العدو الإسرائيلي إلا الخيبة، حيث أصبحت في قراراتها السياسية والاقتصادية مرتهنة للهيمنة الأميركية الإسرائيلية. كانت رؤية أنور السادات تعتمد على وجهة النظر السائدة بأنّ إحدى طرق التقرّب من واشنطن هي من خلال «إسرائيل»، فقد لجأ إلى الصلح والمهادنة تحت ذريعة تحسين الوضع الاقتصادي، ولكن من خلال التطرق إلى مختلف القطاعات الاقتصادية الرئيسية والإنتاجية المصرية ووضع البنية الاقتصادية والمالية قبل السلام وبعده نرى مدى التأثير السلبي على الاقتصاد المصري.

1) استنزاف القطاع الزراعي
تبدو التبعية الاقتصادية والسياسية جليةً على العلاقات الاقتصادية المصرية الإسرائيلية، خاصة إذا ما تعرضنا لما قام به البنك الدولي بالتعاون مع وكالة التنمية الأميركية من خلال استراتيجية التنمية في قطاعَي الزراعة والصناعة بغية جعل هيكل الاقتصاد المصري متسقاً مع متطلبات السلام الأميركي الإسرائيلي. ففي الوقت الذي كانت فيه مصر تقوم على دعامتين أساسيتين: هما النيل وموقعها الجيو-استراتيجي باعتبارها الجسر البري إلى آسيا ؛ كان من الممكن أن يشكل ذلك مقوّمات أساسية لبناء قطاع زراعي قوي، ولكن ما حصل مع مصر، حال دون نماء هذا القطاع وتطوره، بل عمل على تهميشه وإفقاده لميزاته ومقدراته.
كانت الزراعة بمثلثها الرئيسي وزوايا الارتكاز الثلاث التي تمثل الإنتاج النباتي والإنتاج الحيواني والتصنيع الزراعي عصب التنمية الزراعية والإنتاج الزراعي. وحيث يمثل الناتج الزراعي 18% من الناتج القومي حالياً، فقد كان في الستينيات والسبعينيات أكثر من 55% ما جعل مصر تتسم بوصفها بلداً زراعياً. وقد تمثلت الاستراتيجية، الموضوعة من قبل وكالة التنمية الأميركية، في تغيير الهيكل المحصولي بشروطٍ تزيد من فرص المؤسسات الأجنبية وبالأخص الإسرائيلية في السيطرة على مدخلات هذا القطاع.

2) تهميش القطاع الصناعي
وقعت مصر في عهد السادات رهينة هجوم مخطط عُرف باسم «سياسة الخطوة خطوة» منذ عام 1974. ذلك الهجوم نجح في تحقيق أهدافه في منتصف عام 1977، إذ صاحب تلك الفترة تغيرات أصابت البنية الاقتصادية المصرية ودفعت السادات إلى الخضوع للشروط المفروضة عليه، ومن ثَمَّ التمهيد لعلاقات غير متكافئة مع الاقتصاد الإسرائيلي. فيما بعد جرّت الحكومة الإسرائيلية مصر لعقد اتفاقية الكويز التي تسمح بإنشاء مناطق صناعية مؤهلة لتصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة،‏ حيث تتمتع منتجات هذه المناطق بميزة الدخول الى السوق الأميركية معفاة من الجمارك بشرط مساهمة كل طرف بمكونات محلية تقدر بـ ‏11.7%‏ على الأقل، وهذه النسبة تمثل ثلث النسبة المقررة ‏(35%)‏ التي حددتها اتفاقية التجارة للمكوّن الاسرائيلي للدخول إلى السوق الأميركية بإعفاء كامل‏، حيث تتضمن الاتفاقية ذاتها السماح للكيان باقتسام هذه النسبة سواء مع مصر أو الأردن. إن «حجم العائد الاقتصادي الذي حققته مصر منذ تفعيل الاتفاقية عام 2005 وحتى الآن، لا يرتقي إلى الأهداف التي رصدتها الدولة حينها، حيث إن الاتفاقية تتيح فرصاً أمام مصر للوصول بصادراتها التي تتم من خلالها إلى أكثر من 10 مليارات دولار، في حين أن المؤشرات الحالية لا تتجاوز المليار دولار.

3) خسارة الموارد النفطية
أعقب توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية انسحاب جزئي من الأراضي المصرية، وعلى فور ذلك تم توقيع عدد من اتفاقيات التطبيع، كان أبرزها: الاتفاقية المتعلقة بترتيبات النفط مارس/آذار 1980، والتي ضمنت للكيان الحق في إجراء مشتريات تجارية عادية من النفط المصري، لكن الكيان الصهيوني خلال فترة الانسحاب الأول صعّد مطالبه وهدّد بعدم الانسحاب من منطقة النفط (شعاب علي) ما لم تُنفذ مطالبه.
وبالفعل تم مراده، فبات «الكيان يمتلك حصة منتظمة من النفط المصري وصلت إلى أكثر من مليوني طن سنوياً يحصل عليها بسعر يقل عن 5 دولارات في البرميل الواحد عن السعر السائد في السوق بالنسبة إلى النفط المصري. وفي الوقت الذي بقي فيه الكيان لعقود خلت يأخذ النفط المصري بسعر زهيد، ويستورد الغاز كذلك، ويكبد مصر خسائر جمة في ذلك، فقد شرعت حكومة الاحتلال إلى تصدير الغاز من احتياطاتها البحرية إلى مصر. كما أبرمت شركة «نوبل» ومقرّها الولايات المتحدة، وشركة «ديليك» الإسرائيلية صفقة بقيمة 15 مليار دولار مع شركة «دولفينوز» المصرية لمدة عشر سنوات لتزويدها بـ 64 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.
ووفقاً للاتفاقية الخاصة بالحدود المصرية القبرصية، هناك تقديرات عديدة، تشير إلى أن مصر فيها قد تنازلت عن شريط مائي، لمصلحة اليونان، ما منح اليونان حق الاستغلال الاقتصادي لجزيرة «كاستلوريزو»، وهو ما جعل الحدود البحرية لكل من اليونان وقبرص الرومية تتماس، وتخرج مصر من هذه المنطقة القريبة من شمال دمياط، وهو ما يسمح بتمرير أنبوب الغاز بين الكيان الإسرائيلي وكلٍّ من أثينا ونقوسيا، من دون أن تُدفع رسوم لمصر. بالإضافة إلى أن ذلك سوف يوفر للكيان الإسرائيلي ملايين الدولارات سنويّاً؛ فإنه كذلك إجراء احترازي لاعتبارات الأمن القومي الإسرائيلي.

4) تدمير البنية الاقتصادية المصرية
بعد الاعتماد على الاستثمارات الخارجية والجهات الدولية بشكل أساسي في مصر، بدت تغيّرات في البنية الاقتصادية المصرية. حيث تم الاعتماد على الخارج لتغطية الفجوة الغذائية، القروض الميسرة والمنح. وبات من سمات الاقتصاد المصري الهيكل الهش والمكشوف للموارد. كما ارتفعت معدلات الديون المصرية بشكل ملحوظ وخيالي.
إن تنمية الناتج المحلي والإجمالي المصري وموارد الاقتصاد لم تنتج عن جهد تنموي حقيقي، بل عبر الديون الخارجية، فعلى سبيل المثال، تتحدث الدراسات الأميركية عن حصول مصر، من الولايات المتحدة منذ عام 1979 وحتى عام 2011 على 69 مليار دولار «خدمة أبحاث الكونغرس»، 1.3 مليار دولار ومساعدات اقتصادية تبلغ 250 مليون دولار، بينما حصل الكيان الإسرائيلي على 98 مليار دولار. إلا أن هذه المساعدات لم تثمر اقتصاداً ناجحاً ومتوازناً بدليل العجز في الموازنة والميزان التجاري، وهذه المساعدات إنما عززت من سطوة الجهات المانحة ومن تبعية مصر لها وفقدانها لقرارها السياسي والسيادي، كما شملت النواحي الاقتصادية وزادت من شللها.
وقد قدمت الحكومة الأميركية قروضاً ميسرة ومساعدات مشروطة لقطاعات النفط والقناة والسياحة والعاملين في الخارج، وهو ما مثّل أداة للتدخل المباشر في إدارة الاقتصاد المصري على المستوى الكلي والقطاعي والجزئي، وأداة لتحديد اتجاهات التنمية وفق المخططات الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية. تشير البيانات والأرقام الرسمية المتاحة، ووفقاً للبنك المركزي المصري، إلى ارتفاع جنوني وصل إلى 96 مليار دولار حتى عام 2020. وعليه فإنّ الديون الخارجية تكون قد قفزت 360% في غضون 38 عاماً. وبلغ إجمالي الدين العام المحلي بما يمثل 74% من الناتج المحلي الإجمالي.

خلاصة
أثبتت النتائج كيف يمكن للدول المحافظة على ثرواتها ومقدرات بلادها من خلال صون سيادتها وعدم تسليم زمام أمورها للخارج. يمكننا القول من خلال التطرق إلى النموذج المصري إن خوض مسار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي كانت له عواقب وخيمة على الاقتصاد المصري، الذي كان يمكنه أن يحقق الاكتفاء الذاتي على كل الصعد دون أن يسجل ديوناً كبرى تقع على كاهل البلاد والعباد.
وفي الركب المقابل، تصدّرت إيران الدول الممانعة للتطبيع والهيمنة الأميركية، وبذلك نالت النصيب الأكبر من العقوبات الاقتصادية الأميركية وحُرمت من عمليات التوريد والتصدير في مختلف القطاعات، وحُجبت أموالها وودائعها في بنوك الدول، لكن دراسة الجدوى لتلك العقوبات تظهر أنها لم تحقق مرادها.
لقد اتفق الباحثون على أن تأثير العقوبات الأميركية على اقتصاد إيران، رغم وصولها إلى المستوى الأشد قساوةً، لم يحقق مبتغاه، وفي حين تجاوبت مختلف الدول للتهديدات الأميركية، وقطعت علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إيران، وتوقفت عن شراء النفط الإيراني، فإنّ إيران قد عمدت إلى إعادة هيكلة اقتصادها واعتمدت على الإنتاج الذاتي لتحقيق الاكتفاء عبر استهلاك الإنتاج الداخلي وتقليص الاعتماد على النفط إلى الحدّ الأقصى. وفيما تستمر إدارة بايدن اليوم في نهج العقوبات، تقوم إيران بتحويل التهديد إلى فرصة، وعلى العكس من ذلك نرى أن غالبية الاقتصادات العربية التي بنت اقتصاداتها على ما يُعرف بالاقتصاد الواحد أصبحت مرتهنة وتابعة للسياسة الأميركية، وذهبت نحو التطبيع، ولكن في نهاية المطاف ستكون لهذا الأمر انعكاسات كارثية على اقتصاداتها.
*باحث في العلاقات الدولية

*صحيفة الأخبار - د. علي مطر

رایکم