شبکة تابناک الاخبارية: تزامنت سلسلة تقارير صدرت من كُبرى الصحف الأمريكية، أكدت وضع ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف تحت الإقامة الجبرية بقصره في مدينة جدة السعودية، ومنعه من مُغادرة البلاد، فضلًا عن قيود مماثلة على بناته وأزواجهنّ. المعلومات التي أشارت لحملةٍ تخضع لإشراف مُباشر من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، للقبض على أتباع ابن عمه، وتقليص نفوذهم، رسمت صورة عن ملامح الصراعات المستترة داخل أروقة الحُكم السعودي.
يستعرض التقرير التالي مدى قدرة الأمير الشاب على تثبيت دعائم حُكمه، بعد وضع بن نايف تحت الإقامة الجبرية، في ظل معلومات متواترة عن تحركات موازية لسحب الثقة منه من أحد الجناحات المتنفذة داخل العائلة.
سعى بن سلمان خلال الشهور الأخيرة لتقليص صلاحيات بن نايف في ملفي الاستخبارات والأمن الداخلي، عبر استصدار قراراتٍ ملكية قلّصت من النفوذ التاريخي لـ«بن نايف»، الذي يشرف على جميع المسائل الأمنية الداخلية، فضلًا عن توليه ملف مُكافحة الإرهاب وتنظيم القاعدة.
وامتدت تلك التغييرات إلى تنصيب رجالات محسوب ولاؤها لـ«بن سلمان» في مناصب مهمة بجهاز الاستخبارات، واستحداث أجهزة أمنية بصلاحياتٍ واسعة مقابل تهميش المجالس المعنية بملفات الأمن التي كانت تخضع لإشرافه.
لا تبدو هذه التغييرات والقرارات كافية للقضاء على نفوذ محمد بن نايف التاريخي داخل الأجهزة الأمنية، فهو الرجل الذي عمل عقودًا في وكالة الاستخبارات ومجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، والذي وصفه بروس ريدل: «بأنه على الأرجح ضابط المخابرات الأكثر نجاحًا في العالم العربي».
«صقور محمد بن نايف» هي واحدة من أكثر الفرق الأمنية داخل وزارة الداخلية السعودية تدريبًا وتأهيلًا، وتتمتع باستعدادٍ قتاليٍّ عالٍ، فضلًا عن ولائها المُطلق لمحمد بن نايف، الذي أسسها لمواجهة أي اعتداءات خارجة خلال موسم الحج.
نفوذ محمد بن نايف الذي ما يزال حاضرًا، مرتبط كذلك بضعف القيادات الأمنية المحسوبة على الأمير الشاب، وانعدام خبرتها في مجال الشئون الأمنية، كحال «عبد العزيز بن سعود بن نايف» الذي تقع وزارة الداخلية تحت مسئوليته حاليًا بعد إطاحة عمّه، وكذلك «أحمد العسيري» الذي يشغل منصب نائب رئيس الاستخبارات.
كما يمتد نفوذ محمد بن نايف داخل الكيانات الأمنية الأخرى، عبر مجموعة من حلفائه الذين ما يزالون متنفذين داخلها، ومسيطرين على مقاليد إدارتها، كالحرس الوطني السعودي الذي يقع تحت قيادة الأمير متعب بن عبد الله، ابن الملك الراحل عبد الله، والذي يُعد صديقًا مقربًا وحليفًا سياسيًّا لمحمد بن نايف، وفقًا لما ذكره سيمون هاندرسون في مقالٍ نشره معهد واشنطن.
وقوات الحرس الوطني السعودي هي واحدة من أهم القوات العسكرية السعودية، التي تتبع وزارة الحرس الوطني وهي إحدى الوزارات السيادية بالسعودية، وتضم وحدات أمن خاصة، ووحدات إسناد، وكتائب، ولديها عدة فروع، كما أن كلية الملك خالد العسكرية تخضع لإشراف الوزارة.
تحقَّق للأمير محمد بن نايف نفوذ «تاريخي» لدى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية على مدار السنوات العشر الأخيرة، نتيجة إشرافه على ملفات شديدة الحساسية، كمواجهة تنظيم القاعدة داخل السعودية، وتبنِّيه لبرامج إعادة تأهيل وإصلاح للجهاديين، فضلًا عن توليه ملف التنسيق الأمني والاستخباراتي مع نظرائه الأمريكيين، والذي حقق خلاله تقدمًا كبيرًا سواء في الداخل السعودي أو الخارج.
«بن نايف» الذي درس فى إحدى جامعات ولاية أوريجون، وتدرب كذلك في مكتب التحقيقات الفيدرالية «إف. بي. آي.»، حقَّق إرثًا من النفوذ الحقيقي، لن تمحوه مساعي ابن عمه الشاب بالضربة القاضية، حتى وإن حققت له هذه المساعي بروز صوره على أغلفة كُبرى الصحف الأمريكية، والدخول في مضمار المنافسة معه على حجم نفوذ كليهما لدى الإدارة الأمريكية.
يظهر ذلك في حديث جورج تينيت، المدير الأسبق لـ«سي. آي. إيه.» الذي قال عنه إنه «الأهم من بين الأشخاص الذين تحدثت إليهم. فهو شاب نسبيًّا، وقد وضعنا فيه قدرًا كبيرًا من الثقة وأوليناه احترامًا عظيمًا». ومدحه كذلك ليون بانيتا، المدير السابق للمخابرات الأمريكية، وأشاد بقدراته قائلًا: «إنّه الأذكى والأكثر خبرة في أبناء جيله».
ولا يبدو أن المؤسسات الأمريكية سترمي ورقة حليفها التاريخي «بن نايف» بسهولة، وهو الأمر الذي يُدلل عليه اتصالات من جانب مسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية له بعد عزله، حسبما أشار تقرير نيويورك تايمز، فبمنظور برجماتي يظل بن نايف هو الرجل الذي يوثق في قدرته على الإشراف على ملف «مكافحة الإرهاب»، وتحوي جُعبته الكثير من الأسرار والخبرات والصلات داخل الأسرة المالكة، والتي تجعله رقمًا صعبًا داخل أروقة السلطة في السعودية، وأحد الحلفاء الذين قد تستعين بهم المملكة حال نشوب اضطرابات تُهدد مصالحها، أو فراغات أمنية واستخباراتية داخل المملكة على مدى السنوات القادمة.
يتجلّى كذلك هذا التقدير الأمريكي للأمير السعودي، في تكريمه أوائل العام الجاري، من جانب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مايكل بومبيو بالعاصمة السعودية، وتقليده ميدالية «جورج تينت» التي تقدمها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي. آي. إيه.»، وذلك «تقديرًا لعمله الاستخباراتي المميز في مجال مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى إسهاماته غير المحدودة لتحقيق الأمن والسلم الدوليين».
وكان دور بن نايف في إعداد شبكة من المخبرين، أحبطت أكثر من مؤامرة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، مسألة جعلته الرجل الأول لدى الإدارة الأمريكية في السنوات الأخيرة، وهي تراه أفضل من يُنسق معها، والأكثر فهمًا للداخل الأمريكي، فهو الذي عاش فيها فترات شبابه وصباه خلال سنواته التعليمية الأولى والجامعية كذلك.
وكان بن نايف له الدور الأكبر في إحباط وضع تنظيم القاعدة قنابل على متن طائرات تابعة لشركتي UPS وFedEx، والتي كانت متجهة من اليمن إلى شيكاغو، عقب انتخابات الكونغرس الأمريكي في عام 2010، إذ اتصل بن نايف بالبيت الأبيض وقدَّم إلى جون برينان، مستشار الرئيس أوباما لشؤون الإرهاب، أرقام الحاويات القاتلة لمتابعتها، وجرى توقيف هذه الطائرات بعد ذلك في كلٍّ من دبي وشرق ميدلاند بالمملكة المتحدة، وأزيلت القنابل.
تظل مسألة تدخُّل الدوائر الأمريكية النافذة – حال وفاة الملك سلمان– في ترجيح كفّة بن سلمان حال حدوث انشقاقات كُبرى بين أفراد الأسرة الحاكمة أمرًا مستبعدًا، وهو الاحتمال الذي يُعززه تواصل مسئولي الإدارة الأمريكية مع الأمير بن نايف، حسبما أشارت جريدة نيويورك تايمز، والتعامل معه كمن ما يزال نافذًا في دوائر الحُكم.
تتجنّب وسائل الإعلام السعودية الرسمية، ذكر محمد بن نايف، بعد وقائع عزله من منصب ولي عهد ملك السعودية، في نشراتها الإخبارية؛ إذ لم يعد اسمه متداولًا في شريط الأخبار، من باب أنه كان وليًّا للعهد، ومنتسبًا للعائلة المالكة. وكفّت عن نشر أخبار مؤسساته الخيرية، ومُتابعة أنشطته الثقافية وجلساته مع كبار الكُتاب، كما هي العادة في تغطية وسائل الإعلام السعودي مع أمراء آل سعود في المملكة.
وتجاهلت شاشات التلفاز والصحف السعودية التقرير الذي نشرته نيويورك تايمز عن وضعه تحت الإقامة الجبرية، وأكدته الجارديان وول ستريت جورنال في تقارير تضمّنت معلومات مُشابهة للواردة في تقرير نيويورك تايمز، دون أن يخرج مسئول سعودي رسمي ينفي التصريحات علانية، ويُكذِّب ما تناقلته الجريدة نقلًا عن مسئولين أمريكيين حاليين وسعوديين.
يُرجح من احتمال تذمر محمد بن نايف من عزله، هو عدم خروجه للظهور الإعلامي بنفسه على القناة السعودية الرسمية، لتكذيب المعلومات الواردة في التقارير الأجنبية بشأن وضعه تحت الإقامة الجبرية مع بناته، وتغيير الحرس الشخصيّ له، واستبدالهم بحرسٍ موالٍ للأمير الشاب، ودعم محمد بن سلمان وتزكيته في تصريحات علنية، لحسم هذا الأمر.
وبينما يغيب محمد بن نايف عن شاشات التلفاز السعودية، تصدَّر ولي العهد الجديد الشاشات والصحف، التي باركت الخطوة بمقالات امتداح واحتفاء بالحقبة الجديدة، وخطط التنمية التي يشرع ولي العهد الجديد في تنفيذها.
وظل مشهد محمد بن سلمان، وهو ينحني لتقبيل يد وقدم ابن عمه في مراسم المُبايعة، هي الصورة الأخيرة لـ «بن نايف» في شاشات التلفاز السعودية، التي دأبت وسائل الإعلام السعودية على إعادتها لمحو أيّ تفسيرات تخالف التفسيرات الرسمية لعملية مبايعة الأمير الشاب، وتصدير صورة مفادها أن تنحية بن نايف جرت بسلاسة بين هيئة البيعة.
بدت مراسم البيعة للأمير الشاب محمد بن سلمان مُغايرة للصورة السائدة عما جرت خلال السنوات السابقة، وغابت المظاهر الشعبيّة التي ترافق عادة إعلانات تعيين التراتبيّة الخلافيّة، في مشهد يوحي بتنامي غضب قطاع واسع من أمراء آل سعود تجاه ترقِّي نجل الملك سلمان، رجّحه عدم إعلان اسم ولي لوليّ العهد.
هذه الصورة المخالفة للتقاليد التي تتبعها الأسرة الحاكمة في المملكة، جعلت مشهد مُبايعة بن سلمان مفتقدًا لشرعية إجماع آل سعود، وعبّرت عن أزمة داخل العائلة، تجلت صورتها في افتقار بن سلمان إلى تحالف مع أقوياء أو أجنحة من داخل العائلة.
حسب رواية المغرد السعودي الشهير «مجتهد» ، فـ«السبب النهائي الذي أجبر بن نايف على التنحي دون مقاومة هو ابتزاز أخلاقي في مؤامرة نفذها عملاء الإمارات لصالح بن سلمان». يُعزز من هذه التفسيرات، المعلومات التي أوردها تقرير منشور حديث لوول ستريت جورنال، ذكرت فيه أن الأمير الشاب محمد بن سلمان يقود بنفسه حملة لإسكات معارضيه من أتباع ابن عمه، وفرض إقامة جبرية على عددٍ من حلفاء ابن عمه، واستبدل جميع الحراس السابقين بحرّاسٍ موالين للديوان الملكي، ليكون على ثقة في عدم قدرة محمد بن نايف على عمل أي شيء، أو اتخاذ أي خطوة باتجاه ولي العهد الجديد.
وتحدّث المغرد السعودي – الكاشف للكثير من أسرار العائلة الحاكمة– أيضًا عن «تنامي حراك في العائلة للاصطفاف خلف أحمد بن عبد العزيز، وإقناعه باستلام القيادة، وإصدار بيان بعدم أهلية الملك سلمان للحكم بسبب وضعه العقلي، وبطلان قرار تعيين محمد بن سلمان وليًّا للعهد».
يعتقد سايمون هندرسون مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن، في تقريرٍ حديث صادر عن المركز، بعد التغييرات الأخيرة، أنّ محمد بن سلمان هو وجه المملكة العربية السعودية الجديد، إلّا أنّه ربما لم يحصل حتى الآن على الدعم الذي يسعى إليه من العائلة المالكة.
يُدلل على ذلك بوجود قلاقل داخل الأسرة الحاكمة، من جرّاء إقصاء بن نايف، وتصعيد الملك سلمان لنجله محله، وعدم إعلان أسماء المصوّتين أو المعترضين أو المتحفّظين خلال مراسم البيعة، وتجاهل ذكر «الظروف الخاصّة» التي أدت إلى عقدها.
وكان محمد بن نايف، قد غادر المملكة، إلى الجزائر العام الماضي، في زيارةٍ فسرها القريبون منه «بأنها اعتكاف احتجاجًا على سياسات الأمير الشاب، وتجاوز التقاليد الراسخة داخل الأسرة الحاكمة». وكان عضو في العائلة المالكة، قد تحدث لوول ستريت جورنال في نوفمبر العام الماضي، عن بوادر هذه القلاقل التي تُحيط بالعائلة. وقال: «الأسلوب الصارخ الذي يتبعه بن سلمان، والإنفاق المبالغ لديه لا يتّفق عليه أغلب أعضاء الأسرة الحاكمة، بينما المطلوب شدّ الأحزمة». ويضيف بأنّ الأخير«سيصبح ملكًا يومًا ما»، لكنه لا يتصرّف الآن كمن يريد أن يكون ملكًا. لماذا؟ لقد اعتاد السعوديون العمل البطيء والمحافظ في المملكة، وبن سلمان في عمر الـ31 قد صعد بسرعة قياسيّة».
المصدر: شفقنا