شبکة تابناک الاخبارية: يدفع الأطفال ثمناً باهظاً للحرب في بلادهم، وهو ثمن لا تتحمله فقط العائلات المنكوبة بأطفالها، بل ستكون سوريا بكاملها، دولة ومؤسسات ومجتمعاً، مجبرة بعد سنوات على «تجرّع» الخلل الذي أصاب المؤشرات الديمغرافية والصحية والتعليمية.
دمشق على بعد أمتار قليلة من مدرستهم في منطقة أشرفية صحنايا، جلس ستة أطفال على جزء من ركام بناء سكني هدم قبل عدة سنوات، «يسرقون» بعضاً من الوقت للهو واللعب، قبل أن تجبرهم صيحات أمهاتهم على العودة إلى منازلهم للدراسة.
لكن ما اعتاد الأطفال فعله كل يوم تقريباً، أنهته إلى الأبد قذيفة هاون دهمت «الاجتماع»، حاصدة أرواح خمسة أطفال، وملحقة جروحاً بالغة بالسادس، الذي فقد شقيقه الأصغر في تلك المجرزة.
كان المشهد مأساوياً للأهل وهم يرون، من نوافذ منازلهم، أجساد أطفالهم ملتصقة بركام البناء المهدم، أو متطايرة في الهواء. وما هي إلا دقائق قليلة حتى غصّت المنطقة بكثير من الأمهات والآباء الذين هرعوا لاصطحاب أولادهم من المدارس الثلاث المتجاورة، خوفاً من قذيفة جديدة.
يدفع الأطفال يومياً ثمناً باهظاً للحرب المشتعلة، خوفاً ورعباً، مرضاً وإعاقة، نزوحاً وتشريداً، فقراً وجوعاً. لكن يبقى للموت وقعه الكارثي، ولا سيما أن التقديرات والبيانات الإحصائية تشير إلى ارتفاع كبير في نسبة وفيات الأطفال إلى إجمالي الوفيات الناجمة عن الحرب.
فالنتائج غير المباشرة لمسح السكان تشير إلى أن وفيات الأطفال تشكل نحو 11,4% من إجمالي عدد الوفيات العامة للحرب، منهم 77% كانوا ضحايا مباشرين للحرب، و37% ضحايا غير مباشرين، فيما تؤكد منظمة «اليونيسف» أنها تحققت في العام الماضي من حدوث 1500 حالة من الانتهاكات الجسدية بحق الأطفال، 60% منها كانت عبارة عن حالات قتل وتشويه، جراء استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان. وتضيف أن «ثلث هؤلاء الأطفال قتلوا أثناء وجودهم في المدرسة، أو في طريقهم إلى المدرسة ومنها».
وباستثناء محافظتي السويداء واللاذقية اللتين سجلتا نسبة متدنية، فإن الموت لاحق أطفال جميع المحافظات، وإن بنسب متفاوتة، كانت أعلاها في محافظات حلب، ودرعا، والحسكة، وإدلب، ودير الزور. وبحسب بيانات مسح السكان، الذي جرى في عام 2014 بالتعاون بين هيئة شؤون الأسرة والمكتب المركزي للإحصاء ونفّذه خبراء المركز السوري لبحوث السياسات، فإن وفيات الأطفال في العاصمة دمشق شكّلت وحدها ما نسبته 10% تقريباً من إجمالي وفيات أطفال سوريا خلال فترة الحرب، وهي النسبة نفسها المقدرة في محافظة ريف دمشق.
كل ذلك، يجعل خبراء السكان على اقتناع كامل بأن المستقبل الديمغرافي لسوريا سيكون قاتماً، إذا ما استمرت الحرب «تعبث» على هذا النحو بالمؤشرات الديمغرافية للبلاد. وبحسب عميد المعهد العالي للدراسات السكانية، الدكتور أكرم القش، فإن «من المتوقع أن تحفر تداعيات الأزمة فجوات عميقة في بعض الفئات العمرية لمضلّع الأعمار، وتحديداً في الفئة العمرية الأولى (0 ـــ 4 سنوات)، وبعض الفئات العمرية الناشطة إنجابياً، ومن المحتمل أن تتكرر هذه الفجوات دورياً في حالة شدة الخسائر، أو طول فترة الأزمة».
ومن نجا من الموت برصاص الحرب أو كان بعيداً عن دائرة استهدافه، فإنه في كثير من الأحيان لم يسلم من الجوع أو المرض أو الإصابة أو الخطف أو المتاجرة بجسده أو سلبه حقاً من حقوقه الإنسانية. وفي أحيان كثيرة كانت حياة هؤلاء هي الثمن، إلى درجة أن منظمة «اليونيسيف» بدت متشائمة مع دخول الحرب السورية عامها السادس، إذ قدّرت «تأثر ما يزيد على 8,4 ملايين طفل بالنزاع الدائر، سواء داخل البلاد أو كلاجئين في الدول المجاورة». تأثر تختلف درجته وطبيعته وخطورته تبعاً لعدة عوامل، أبرزها التوزع الجغرافي للمناطق، لجهة قربها من مناطق الاشتباكات والمعارك، واستمرار حصولها على الخدمات الصحية والتعليمية، التي لا تزال توفرها الدولة السورية.
لكن في جميع الحالات يمكن القول إن الحرب تركت ندبتها العميقة على أجيال كاملة من الأطفال. وبحسب المتخصص في طب الأطفال وعضو لجان حكومية عدة تعنى بالشأن الصحي للطفولة، الدكتور سمير مرعي، فإن «الأمراض التي زادت نسبتها أو برزت خلال سنوات الحرب، تقسم إلى قسمين: عضوي فيزيائي إنتاني وغير إنتاني.
فأهم مرض إنتاني وبائي كان ظهور بعض حالات شلل الأطفال، وذلك بعد مرور أكثر من 15 عاماً على خلوّ سوريا من هذا المرض». ويضيف في حديثه إلى «الأخبار» أن المرض الإنتاني الثاني، الذي ظهر جراء الحرب، كان «التهاب الكبد الإنتاني الناجم عن تدني الخدمات الصحية، وتلوث مصادر المياه، ونقص مناعة الأطفال بفعل سوء التغذية والحالة النفسية، إضافة إلى انتشار الأمراض التنفسية العلوية والسفلية، كذوات الرئة والأنفلونزا بأنواعها». ومثل هذه الأمراض تنتشر على نطاق واسع في المناطق المحاصرة، وتلك التي تغيب عنها الخدمات الصحية وتتدنى فيها الأوضاع المعيشية. وإذا كان الرجال قد تحولوا إلى ما يشبه «الأشباح» في المناطق المحاصرة، فكيف ستكون حال الأطفال؟
يجيب مدير صحة محافظة دير الزور السابق الدكتور فاخر الحميد عن ذلك السؤال، مستعيناً بمعاناة أطفال المحافظة المحاصرة منذ عدة أشهر، فيؤكد أنه «إلى جانب المعاناة التي يفرضها الحصار لجهة تراجع مستوى الخدمات الصحية كمّاً ونوعاً، فإن نقص التغذية الشديد والجوع يتسببان في أمراض خطيرة للأطفال، تصعب مواجهتها ومعالجتها في ظل استمرار الحصار، وتعمق تأثيراته في مختلف المجالات».
أما الأمراض غير الإنتانية فمعظمها، كما يشير الدكتور مرعي، «يتعلق بالجروح والحروق والكسور والتشوهات، والعاهات الدائمة كالندبات وبتر طرف أو أكثر، والعمى والصمم والعجز الحركي والروحي العقلي، إضافة إلى سوء التغذية الشديد بسبب الفقر وعدم توافر الغذاء، وما يتلو ذلك من ضعف مناعي، وتالياً حدوث إنتانات متكررة كالإسهالات والالتهابات، والتأثير على الحالة الذهنية والعقلية أيضاً»، وخاصة أن التقديرات الإحصائية تكشف أن هناك ما بين 30 و40% من الأطفال ممن هم في سن الدراسة أصبحوا خارج العملية التعليمية، وجزء منهم، وهو ليس بالقليل، انخرط في الأعمال والأنشطة المرتبطة بالعنف.
قصة حسام، وهو أحد الأطفال الخمسة الذين فقدوا حياتهم جراء قذيفة الهاون، تظهر أن الخطر اليوم يظلل حياة أطفال السوريين أينما كانوا، لكن مع فارق وحيد وهو أن مستويات الخطر وشكله يختلفان من منطقة إلى أخرى. فعائلة حسام، التي نزحت من ريف درعا هرباً من المعارك والقصف، فقدته في منطقة تصنّف على أنها «آمنة»، والفقر الذي يطبق على حياة أطفال كثر في مناطق خارجة عن سيطرة الدولة هو نفسه، وربما أشد، في بعض المناطق التي تخضع لسيطرة الدولة.
النهاية