
شبكة تابناك الاخبارية: نشرت مجلة الحجاز السعودیة هذه المقالة لكاتبها وهی تعالج بدقة الموقف السعودی من الیمن قبل الحرب ومابعدها یقول الأمراء بأن الحرب (كُتِبَت علیهم)؛ وینظّر آخرون من كتاب موالین، بأنه لم یكن هناك من مفرّ منها، لأسباب عدیدة: أولها، أن التغییر فی الیمن بسیطرة تنظیم (أنصار الله) یعنی تحولاً استراتیجیاً فی وضع الیمن، وفی مكانة المملكة ونفوذها فیه. وثانیها، أن الیمن تمثل العمق الإستراتیجی للسعودیة، وضمن صراع النفوذ فی منطقة الشرق الأوسط، لا تستطیع الریاض تحمّل خسارتها، لما یشكّل ذلك من خطر على أمنها القومی. وثالثها، إن خیاراً غیر الحرب، كأن یُترك الیمن وشأنه، مع إغلاق الحدود السعودیة الیمنیة، لا یغیّر من أثر الخسارة الكبیرة، بل قد یعجّل بها، أی بسیطرة من تراهم الریاض أعداءً لها على الوضع السیاسی كاملاً فی الیمن.
إذن ـ من وجهة نظرهم ـ لم یبقَ أمام الریاض سوى الحرب، فدخلتها مضطّرة.
الصحفی طراد العمری، قال أن المملكة كانت بین خیارین: إما التدخل العسكری المباشر وتغییر المعادلة السیاسیة الیمنیة بالقوّة، أو إغلاق حدودها مع الیمن، ومنع انتشار النار إلى حدودها ما أمكن. وكان من رأیه، التدخل. كان هذا أیضاً رأی خریج السوربون، عضو مجلس الشورى سابقا، فهد العرابی الحارثی، الذی افتتح هاشتاقین على موقعه فی تویتر قبیل ساعات من إعلان الریاض حربها على الیمن: (إنها الحرب/ وصفعاً على الأنوف). ومن وجهة نظره، فإنه لا بدّ من عملٍ عسكری فی الیمن، ولا یوجد خیار آخر، وإلاّ خسرت الریاض مكانتها، وتهدد أمنها القومی، وتمددت إیران فخنقتها. لا بد من الحرب، ولا بدّ من صفعها على الأنف!
حقاً.. لم یكن أمام الریاض من خیار سوى أهون الشرّین: القبول بالأمر الواقع، مع محاولة التأثیر على الصراع السیاسی فی الیمن من بعید بغض النظر عن النتائج؛ وإمّا الدخول فی الحرب مهما كانت النتائج قاسیة، بل قد تكون أشدّ قسوة، فی حال الهزیمة.
مهلاً.. هذا لیس دقیقاً تماماً.
لم یكن العدوان السعودی على الیمن إلا (نتیجة) لأخطاء سیاسیة سعودیة متراكمة، بحق الیمن وأهله، وبحق من ناصبتهم الریاض العداء.
الریاض هی من اختارت خصومها وحددتهم، دون أن یكون للخصوم سوى ردّ الحجر من حیث جاء.
والریاض هی من اختارت أنصارها وعیّنتهم بشكل دقیق ودعمتهم، ورسمت لهم حدود حركتهم السیاسیة، فجعلتهم أسرى لرأیها، ونسخة منها، وبضاعة قابلة للبیع والشراء، كما كانت تفعل بهم.
الریاض التی سیطرت على كل شؤون الیمن، لنحو أربعة عقود، دون أن ینافسها فیه أحد.. هی من لم تستطع الحفاظ على نفوذها فیه، وهی التی أخطأت فی سیاستها تجاهه. لم یجبرها أحد ـ بفعل منافسة أو جبرٍ ـ أن تفرّط فی نفوذها عبر سیاسات خاطئة. لم یدفعها أحد لأن تستعدی قومه، أن تقتل رؤساءه وتعیّنهم، أن تستهین بكرامة الیمنیین، أن تمنع تأهیل الیمن لیكون دولة بدون تدخلها مستقلا ولو بقدر ما، لیكون جزءً من مجالها الحیوی (فعلاً). هی من لم تقبل ان یكون الیمن جزءً من مجلس التعاون.
الریاض هی التی لم تقرأ خارطة الیمن جیداً، وهی التی لم تكیّف نفسها مع المتغیرات السیاسیة والاجتماعیة فیه، وهی التی لم تتعامل مع القوى السیاسیة الناشئة بالصورة الفضلى، بل عمدت الى استعدائها، وشنّ الحرب علیها، ولم تقبل بأیّ تفاهم معها.
باختصار.. فإن الریاض هی من ضیّقت الخیار على ذاتها، بعد عقود من الأخطاء المتكررة والقاتلة، فكان من الطبیعی ان لا یكون أمامها سوى خیارین أحلاهما مرّ.
قبل إعلان الحرب بأسابیع قلیلة، كان وفد الحوثیین فی شهر ینایر الماضی، قد حطّ رحاله فی الریاض، راجیاً التفاهم، متحمّلا فی الوقت نفسه إرث الحرب السعودیة عام 2009، وعداء الریاض منذ أن بزغ نجمهم. كان بإمكان الریاض وبسهولة ـ لو كانت تقرأ من خارطة سیاسیة صحیحة ـ أن تصل الى تفاهم معهم، إذ فی الأساس: لمَ العداء لأنصار الله؟ لمَ الإصرار على أنهم عملاء ولا یمكن القبول بهم كلاعب أساسی من بین لاعبین آخرین؟ الریاض، وباستعلاء مقیت، رفضت التهدئة، والنقاش العقلانی، فأضاعت واحدة من الفرص (او لنقل الخیارات)، وما أكثر ما أضاعت.
بدیهی والحال هذه، أن تتقلّص خیارات الریاض على الأرض، وتفشل مشاریعها السیاسیة.
كیف یمكن لدولة تتحكم فی الیمن لأربعة عقود، فتتیه بوصلتها وتضع أكبر ثلاث قوى سیاسیة فی خانة العدو؟. انصار الله والتجمع الیمنی للإصلاح وُضعا ضمن قائمة الإرهاب السعودیة. وحزب المؤتمر التابع لعلی صالح، الذی حكمت السعودیة باسمه لاكثر من ثلاثة عقود، وهو أقوى قوة سیاسیة مدنیة، صار أیضاً عدواً بنظر الریاض. وآل الأحمر، شیوخ حاشد، لم تكن الریاض راضیة عنهم فی السنوات الأخیرة، لمیولهم الإخوانیة، وقد كُسر عمودهم الفقری، الذی هو العمود الفقری للریاض نفسها، فلم تبالی الأخیرة، وأصبح حمید الأحمر طریداً لدیها، ثم لحق به اللواء محسن الأحمر، الذی شنّ ستة حروب ضد أنصار الله فی صعدة، وقد هُزم ایضاً وذهب الى الریاض، فانفرط عقد القبائل، الذی كان منتظماً لصالح الریاض لعقود.
اذن لم یُجرم أحدٌ بحق الریاض، بل هی التی أجرمت بحق نفسها. هی من أضاعت نفوذها یوم لم یكن لأحد نفوذٌ یضاهیها. هی التی لم تستكفِ بالنفوذ السیاسی، وأصرّت على تحویل الیمن الى محمیة (وهابیة) فاستفزّت أعماق الزیدیین والصوفیین وكل من لم یجد فی الوهابیة إلا أداة تمزیق للمجتمع الیمنی ونشر الكراهیة فیه. الریاض هی من سلّحت وموّلت جامعات وهابیة ـ عسكریة! فی دمّاج وكتاف وغیرها.
الریاض ـ أیها القرّاء ـ هی مَن أضاع فرصته التاریخیة، وألقى باللائمة على آخرین من وراء الحدود، ثم عمدت الى تحویل الصراع مع یمنیین أصلیین وقوى یمنیة فاعلة الى صراع مذهبی طائفی.
وهكذا، لیس مستغرباً ان تكون الریاض فی اللحظات الأخیرة بلا خیارات كثیرة، وبلا مساحة أو هامش واسع للمناورة، وبلا رؤیة مستقبلیة أو مراجعة لسیاستها الخرقاء.
حین جاءت الثورة الیمنیة، احتوتها الریاض بمبادرتها (الخلیجیة!)، وأرادت إعادة انتاج النظام القدیم، دون أن تسمح للقوى الجدیدة الحیّة أن تلعب دوراً فاعلاً فی السیستم الجدید. هی من هندس نظام المحافظات الأخرق فاستفزت الخصوم؛ وهی من راهن على رجال النظام القدیم بكل أخطائهم. ثم لمّا حانت ساعة الحقیقة، وزحف الثوار الى صنعاء، لم تكن لدیها الأدوات لمواجهتهم، بعد أن استعدت الجمیع، شخصیات وقوى سیاسیة وقبائل وحتى مشاعر المواطن الیمنی العادی.
ومع هذا، وفی اللحظات الأخیرة، كان هناك إمكانیة للإستدارة، لكن الریاض أصرّت على المواجهة، فأمرت الرئیس هادی أن یستقیل هو ورئیس وزرائه ففعلا، بغیة منها تأكید الفراغ السیاسی، مترادفاً مع إعطاب الحوار السیاسی الذی كان یجریه جمال بن عمر، فتمّ تخریبه وتأجیله مرارا. ثم حاولت ان تضع عدن مقابل صنعاء، فهرّبت هادی، وألحقته بوزیر الدفاع الصبیحی، ونقلت سفارتها وشقیقاتها الخلیجیات ومعها مصر والباكستان الى عدن، وحرّكت المشاعر والأدوات لتفجیر المساجد فقتل وجرح المئات فی صنعاء.. الى أن حلّ الطوفان، ووصل الى عدن، فحزم الخلیجیون والسعودیون أمتعتهم الى غیر رجعة.
بعضهم أُخلی بالطائرات، والبعض الآخر بالبوارج الحربیة!
وأما هادی، الرئیس المستقیل الذی عاد عن استقالته بعد أن وصل الى عدن، فتمّ تهریبه الى سلطنة عمان، ومنها الى الریاض، لیُعلن الأمراء بإسمه، وبمزاعم شرعیته، الحرب على أنصار الله، وعلى الجیش الیمنی، وعلى العملیة السیاسیة والحوار الذی انقطع فی موفمبیك، وعلى البنیة التحتیة للیمن، وعلى المدنیین الیمنیین.
وهكذا لم یبق لدى الریاض التی فاتتها المراجعة والتفكیر السوی، غیر خیار الحرب، انتقاماً للذات المجروحة!
ومع هذا یصرّ الأمراء الذین أعلنوا حربهم على الیمن شعباً وجیشاً وقوى سیاسیة، أنها (حرب دفاعیة) مشروعة! مع أنها حرب من طرف واحد حتى كتابة هذه السطور!
حسابات الریاض كانت ساذجة بل مفرطة فی سذاجتها: نحن الأقوى عسكریاً، والحوثیون هم الأضعف! معنا أمریكا وعشر دول أخرى! ومن ورائهم طوابیر أخرى، فیما الحوثی لا حلیف له قادر على الصمود.
لدینا الغطاء السیاسی الأمریكی الغربی، والعربی ـ وان كان تافهاً ـ لشنّ الحرب! لدینا فائض من المال لشراء ولاء القبائل الیمنیة واستعادتها وتأهیلها للحرب معنا على الأرض!
الطبقة السیاسیة الیمنیة المهزومة الموالیة لنا، یمكن إعادة تلمیعها وتجمیعها بالوفرة المالیة! الرأی العام العربی والاسلامی سیكون معنا، ونستطیع تجییشه على أسس عنصریة ومذهبیة!
الإعلام بیدنا، لدینا 705 محطات فضائیة مملوكة او موالیة، فماذا لدى الآخر. فی أسوأ الظروف، نستطیع ان نشتری مقاتلین أو مرتزقة، من الباكستان أو مصر أو غیرها، أو حتى یمنیین، لیخوضوا عنّا الحرب البریة!
وبیدنا ورقة القاعدة فی الیمن، ونستطیع استخدامها إن تطلّب الأمر. كانت هذه ـ فی معظمها او كلّها ـ رهانات خاطئة، او كانت مقاربتها وقراءتها خاطئة.
كل المقاربة السعودیة فی الحرب نابعة من تضخیم الذات، وتسخیف قوة الخصم، رغم وجود تجربة 2009، حیث هزم الحوثیون المحاصرون فی محافظة صعدة الجیشین السعودی والیمنی معاً، فكیف بهم الآن.
سنقرأ فی مقالات أخرى فی هذا العدد، كیف قادت السیاسة الرعناء الأمراء، لیس الى الحرب فحسب، ولیس الى خسارة معظم النفوذ فی الیمن، بل وأیضاً الى خسارة الحرب نفسها على كافة الأصعدة السیاسیة والإعلامیة والعسكریة والنفسیة.
النهاية