استطاعت الجمهورية الإسلامية الايرانية بعد 35 عاما على انتصار ثورتها الإسلامية أن تبلغ مرحلة النضوج والرشد، فقد أصبح الشعب الإيراني أكثر وعيا وإدراكاً بما حققته ثورته من عزة وكرامة ورفاهية وعدالة اجتماعية، وهي الأهداف التي لاتزال الشعوب الأخرى في المنطقة تبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيقها.
لقد حققت الجمهورية الإسلامية الإيرانية انجازات غير مسبوقة في زمن قياسي بالنسبة لنتائج الثورات وأعمار الدول صانعة الحضارات، فرغم كل الصعوبات والعقبات والتحديات التي واجهها الشعب الإيراني لإفشال ثورته المجيدة، بداية من حرب الثماني سنوات مع نظام "صدام"، مروراً بالحظر الظالم الذي فرضته الدول الغربية على الجمهورية الإسلامية، إلا ان ايران استطاعت تحقيق طفرة غير مسبوقة في مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وبات العالم ينظر إلى الجمهورية الإسلامية باعتبارها من أهم الدول في المنطقة، لما تملكه من مقومات تستطيع من خلالها التأثير في كل مجريات الأحداث والقضايا الإقليمية والدولية.
لقد ظنت الولايات المتحدة والدول الغربية أن باستطاعتها اخضاع الجمهورية الإسلامية من خلال فرض الحظر ومحاصرة الشعب الإيراني اقتصادياً، وتضييق الخناق عليه حتى يثور على حكامه، ولكن الشعب الإيراني الذي ثار على النظام الملكي الفاسد قبل خمسة وثلاثين عاما، لديه الوعي والقناعة بأهمية الاصطفاف خلف قياداته الحكيمة، التي استطاعت أن تتصدى للهيمنة الغربية والأميركية، وأن تقف في وجه الاستكبار العالمي ، فقد وجه الشعب الإيراني لطمة كبرى للغرب بتلك الوحدة غير المسبوقة، فأقرت الولايات المتحدة والدول الغربية بهزيمتها، ونجاح الثورة الإسلامية، وسارعت إلى التقارب مع إيران والاعتراف بها كقوة إقليمية كبرى، وكشريك في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، من خلال توقيع اتفاق جنيف حول البرنامج النووي الإيراني، والتفاوض حول الأزمة السورية، ومختلف قضايا المنطقة الأخرى بدء من أفغانستان ومروراً باليمن والعراق ولبنان وغيرها من ملفات المنطقة.
استطاعت إيران الثورة، وفي ظل الحصار الظالم عليها أن تغزو الفضاء بتجاربها وأبحاثها المتقدمة، كما استطاعت بناء قاعدة علمية عظيمة في مختلف القطاعات والمجالات الطبية والصناعية والزراعية والبتروكيماويات، بالإضافة إلي التقدم المذهل في الصناعات العسكرية التي نافست بها أرقى التقنيات الغربية، يضاف إلى كل ذلك البنية الأساسية العلمية المتقدمة في مجال الطاقة النووية التي أثارت الذعر والفزع والهلع لدى الدول الغربية، ليس لكونها تحمل طابعاً عسكرياً، ولكن لأن الغرب لم يكن يتصور أن تصل الجمهورية الإسلامية إلي هذه التقنية الحساسة بتلك السرعة الفائقة، وبجهودها الذاتية، وبكوادر أبنائها العلماء الأفذاذ، الذين تفوقوا وبرعوا في مختلف المجالات والميادين.
لقد اعترفت الدول الغربية بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، نتيجة لإصرارها اللامحدود على حقها في ذلك، وأجبرت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين للاعتراف بهذا الحق، وبذلك استطاعت إيران فرض سياسة الأمر الواقع، مثل التجربة الكورية الشمالية، التي انتهت بدخولها إلى النادي النووي حيث تمثل التجربتين النوويتين الإيرانية والكورية الشمالية نموذجين للدول الساعية نحو النمو يحتذي بهما في الاصرار على استقلال قراراتها بما يتوافق مع مصالحها الوطنية العليا بعيداً عن أية هيمنة من دول أخرى مهما عظم شأنها، وهذا ليس في المجال النووي فقط، ولكنه في كل القضايا السياسية والاقتصادية التي تقتضيها المصلحة الوطنية.
لم يكن اتفاق جنيف بين الجمهورية الإسلامية والدول الغربية حول البرنامج النووي الإيراني بسبب أهمية إيران الاستراتيجية وثبات أوضاعها السياسية وقدراتها النفطية وقوتها العسكرية وحسب، لكن أيضا لأنها أصبحت لاعبا أساسيا في المنطقة.
فإيران موجودة في سوريا ولبنان والعراق فضلا عن تأثيرها الكبير في البحرين واليمن. كما أنها متحالفة مع روسيا ومدعومة من الصين. ورغم أن تركيا طرف لا يمكن تجاهله سواء لأنها عضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، أو لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية من ناحية ولكونها صارت طرفا في المشهد السوري وفي الساحة العراقية من جهة أخرى، إلا أن الدور الإيراني أصبح أثقل وزنا.
استطاعت إيران أن تتحدي الحظر الغربي عليها، الذي كان يريد كسر عزيمتها وإرادتها، وعرقلة مسيرتها الثورية التي بدأها الإمام الراحل "الخميني" عام 1979، لكن الإرادة الثورية للقيادة والشعب الإيراني استطاعت أن تحول الحظر إلي حافز للعمل والتحدي، ومواجهته بعزيمة وإصرار على التقدم والرقي والمضي بمسيرة الثورة نحو تحقيق أهدافها، ولذلك اعتمدت إيران على مواردها وقدراتها الذاتية الوطنية، والاستغناء عن الاستيراد من الخارج قدر المستطاع.
لقد استطاعت إيران أن تبدي قدراً عالياً من القوة في تطبيق قانون تفاوضي، يمزج ما بين الصلابة والمرونة، فقد استطاعت أن تجعل من التفاوض الوسيلة الأكثر حسما في استقرار الشرق الأوسط وابعاده عن احتمالات التوتر والتصعيد المؤدي إلى محظور الحرب التي لا تريدها الولايات المتحدة أو الغرب، الذي أيقن أن قدرة إيران على تصنيع القنبلة النووية تزداد بمضي الوقت إذا أرادت ذلك رغم الحصار المفروض عليها.
فالأمم المتحدة حين فرضت حظرها على إيران عام 2006 كانت تملك آنذاك 3000 جهاز للطرد المركزى. وهى تملك الآن اكثر من 18000 جهاز، كما أصبحت قادرة على انتاج أجهزة طرد مركزي تفوق قدرتها أكثر من خمسة عشر مرة من الأجهزة العادية، وتستطيع تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المائة. وهي تسعة أعشار الطريق نحو إنتاج الوقود اللازم للقنبلة .
فاتفاق جنيف فتح الطريق أمام تعاون أوسع مع الدول الغربية لحل القضايا الإقليمية والدولية، الأمر الذى يساعد على خروج المنظومة السياسية والأمنية من توازن القوى إلى استراتيجية توازن المصالح والتعاون الإقليمي. وفي مقدمة تلك المصالح هو الحفاظ على الأنظمة السياسية ومكافحة الإرهاب والتطرف والتعاون أفضل من الصدام.
لقد أدركت الولايات المتحدة والدول الغربية مدى القوة التي بلغتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأن التهديدات التي ظلت تلوح بها طوال الفترة الماضية تجاه إيران، ما هي إلا ورقة أخيرة تنضوي تحت منظومة الحرب النفسية، بعدما فشلت في حرب السنوات الثمانية، وبعدما فشلت أيضا في الحرب الاقتصادية، وفي كل تلك الحروب استطاعت الجمهورية الإسلامية أن تخرج منتصرة، بفضل الإرادة القوية للقيادة الثورية في التعبير عن إرادة الشعب الإيراني بنجاح ثورته وقطف ثمارها بعدما وصلت إلى مرحلة النضوج، فما كان للغرب إلا الإذعان والرضوخ للأمر الواقع الذي يقول إن إيران قوة لابد من الاعتراف بها، وأن التعاون معها كشريك أفضل من الصدام معها.
وجه الشعب الإيراني رسالة قوية، ورداً عملياً علي التهديدات الغربية، في ملحمته الوطنية في يونيو/حزيران 2013 ، عندما توجه إلى صناديق الانتخابات الرئاسية بكثافة لم يشهد لها مثيل حتى في الدول الغربية، وأعطوا ثقتهم للرئيس حسن روحاني، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة والدول الغربية تقر بأهمية إيران ودورها في المنطقة، ومدى تمتع القيادة الإيرانية باصطفاف كافة شرائح الشعب الإيراني خلفها، وأن هذه القيادة تعبر عن إرادة شعبية حقيقية لا يمكن التصدي لها، خاصة بعدما بات الوجود الإيراني في مختلف المحافل أمراً لافتاً، وبعد تسارع الدول الغربية علي التقارب مع إيران، ورغبتها في التعاون وإعادة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية مرة أخرى.
كاتب ومحلل مصري