نبع من ينابيع العلم والمعرفة والاخلاق والايمان والهداية الالهية، وفرع من فروع الامامة والنبوة الختمية التي أخرجت البشرية من الضلالة والظلام والظلم والجاهلية والقبلية والعنف القسري نحو ساحل البر والأمان والهداية والوعي والعلم والثقافة والسكينة والعدالة والمساواة بين البشر.
تلك الرسالة السماوية التي أكدت على عدم الفرق بين السلطان والرعية وبين القائد والجندي وبين الغني والفقير وبين الأبيض والأسود وبين العبد وشيخ القبيلة وبين الرجل والمرأة إلا بتقوى الله عزوجل، حيث قوله تعالى "يٰاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات الآية 13.
هو الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين دون فصل عليهم السلام أجمعين، هو منتهى المكارم سبق الدنيا بعلمه وامتلأت الكتب بحديثه، هو مجمع الفضائل ومن أبرز رجال الفكر ومن ألمع أئمة المسلمين، حيث سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقبل ولادته بعقود ب"الباقر" في حديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رض)، لأنه بقر العلم بقراً، أي فجّره ونشره فلم يُروَ عن أحد من أئمة أهل البيت عليهم السلام .
كان الرائد والقائد للحركة العلمية والثقافية التي عملت على تنمية الفكر الاسلامي، وأضاءت الجوانب الكثيرة من التشريعات الاسلامية الواعية التي تمثل الأصالة والابداع والتطور في عالم التشريع لا تلك الخطوط المنحرفة التي ملأت أركان البلاد الاسلامية حتى يومنا هذا وأدت الى ظهور الفرق الضالة والمنحرفة والبعيدة مثل الوهابية والسلفية والارهاب التكفيري الطائفي الذي هو بعيداً كل البعد عن الاسلام المحمدي الاصيل والسنة النبوية الشريفة .
عاش الامام محمد الباقر (ع) مع جده الامام الحسين (ع) حوالى أربع سنوات وشهد في نهايتها فاجعة كربلاء؛ ثم قضى مع أبيه الامام علي السجاد زين العابدين(ع) ثمان وثلاثين سنة يرتع في حقل أبيه الذي زرعه بالقيم العليا وأنبت فيه ثمار أسلوبه المتفرّد في حمل الرسالة المعطاء في نهجها وتربيتها المثلى للبشرية.
وبدأت ولاية الامام الباقر (ع) وإمامته على عهد الطاغية الأموي "الوليد بن عبد الملك" الذي شُغِلَ عن آل البيت (ع) طوال فترة حكمه بتصفية أسرة "الحجاج بن يوسف"؛ ثم جاء من بعده الحاكم الأموي "عمر بن عبد العزيز" الذي اتّسمت مواقفه ببعض الإنصاف تجاه أهل البيت(ع) فمنع سبّ أمير المؤمنين الامام علي (ع) من على المنابر وكان بنو أمية قد اتخذوها سنّة بأمر من "معاوية"؛ وأعاد فدك سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) الى الامام الباقر (ع)، ثم جاء من بعده الطاغية ألأموي "يزيد بن عبد الملك" الذي انصرف الى حياة الترف واللهو والمجون.
إستفاد الامام الباقر(ع) من الوضع الأموي المتعثر والانفراج السياسي الحاصل إستفادة كبيرة لممارسة دوره الرسالي فاتّبع سياسة تعليمية وتربوية رائدة هادفة لمواجهة الأفكار المنحرفة التي تغلغلت مع اتّساع رقعة الفتوحات.
فعمل على التصدي للأحاديث المدسوسة ومواكبة المستجدات واستنباط الحلول لها.. "وانهال عليه الناس يستفتونه عن المعضلات ويستفتحونه أبواب المشكلات"؛ كما وعمل (ع) على تعزيز المدرسة العلمية والفكرية التي انطلقت في حياة والده السجاد (ع) فأصبحت تشدّ إليها الرحال من كل أقطار العالم الاسلامي حتى قال أحدهم: "لم يظهر من أحد من ولد الحسن والحسين في علم الدين وآثار السنة وعلم القرون وفنون الاداب ما ظهر عن أبي جعفر الباقر (ع)".
فأمتلأت كتب الفقه والحديث والتفسير والأخلاق بارائه، واستفاضت بأحاديثه بعد ولده الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، فكان يغترف من معين واحد: كتاب الله وسنة رسوله، وما أودع الله من العلم اللّدُنيّ بصفته من أئمة الحق وساسة الخلق وورثة الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله).
وترك الامام الباقر (عليه السلام) ثروة فكرية هائلة تعد من ذخائر الفكر الإسلامي، ومن مناجم الثروات العلمية في الأرض وفتق أبوابها، وسائر الحكم والآداب التي بقر أعماقها، فكانت مما يهتدي بها الحيران، ويأوي إليها الظمآن، ويسترشد بها كل من يفيء إلى كلمة الله.
لقد وقف الامام محمد بن علي الباقر عليهما السلام حياته كلها لنشر العلوم الاسلامية ونشر المثل الانسانية بين الناس، وعاش في مدينة جده "يثرب" كالينبوع الغزير يستقي منه رواد العلم من نمير علومه وفقهه ومعارفه، عاش لا لهذه الأمة فحسب، وإنما عاش للناس جميعاً.
وبعد تولّي الطاغية والسفاح الأموي "هشام بن عبد الملك" مقاليد السلطة حتى عاد الارهاب والضغط والقمع والفرعنة الأموية ضد أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم وأنصارهم الى الواجهة كما هو الحال في الكثير من البلاد الاسلامية. وأدت سياسة الملاحقة والتنكيل الى انتفاضة الشهيد زيد بن علي السجاد (ع) الذي استشهد هو وأصحابه وأحرقت جثته.
كما قام "هشام" بملاحقة تلامذة الامام الباقر (ع) في كل بلاد ومدينة وديرة وبيت، ولكن هذه الاجراءات التعسفية لم تمنع من تنامي الصحوة الاسلامية والوعي الديني لدى الناس، الأمر الذي زاد من مخاوف الطاغية الدموي "هشام بن عبد الملك" فأمر بدس السم للامام الباقر عليه السلام فأستشهد سلام الله عليه يوم السابع من ذي الحجة الحرام سنة 114 للهجرة صابراً محتسباً مجاهداً وشهيداً بعد (19) عاماً من أمامته للمسلمين ودفن الى جوار والده الامام علي السجاد (ع) في بقيع الغرقد بالمدينة المنورة.