منذ أن بدأت الحرب العالمية الأولى كانت الولايات المتحدة الأميركية تعتمد سياسات تختلف عن غيرها من الدول، ففي حين أن دمرت نصف الكرة الأرضية بعد هذه الحرب، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي خرجت من الحرب فائزة دون أن تصيبها رصاصة واحدة، وذلك بعد اعتمادها حيادا سياسيا، ولكنها بالمقابل كانت تدعم الدول "الحلفاء" اقتصاديا وعسكريا، فكانت بذلك تدين الدولة الفرنسية والبريطانية بالمال من جهة وتأخذه منهم بعد أن تمدهم بالعتاد والأسلحة من جهة أخرى.
كونت هذه الدولة اقتصادها على هذا الأساس ومع تطور الوقت زادت من ثروتها عبر هذه السياسة الدائنة، حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث أنشأت كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبهذا أصبح لديها مؤسسات خاصة لتطبيق هذه السياسات، ولم تنتهي هذه السياسة حتى يومنا هذا، إلا أن هذه الدولة باتت أثرى دولة في العالم ولم تعد تتخذ موقفا حياديا، على العكس، بل أصبحت تسيطر ليس فقط على اقتصاد العالم انما على سياسات وتحركات الدول ككل، فكيف تهيمن هذه الدولة على العالم باسره؟ وما هي المفاهيم التي اعتمدتها الولايات المتحدة لتصل الى هذا الموقع؟ وما هدف هذه الدولة من السيطرة على كل الدول بما فيها الدول الصغيرة مثل لبنان؟
سوف نربط هنا كل من المفاهيم الأميركية مع الوقائع التي تظهر هذه المفاهيم في العلاقات الأميركية اللبنانية.
المفاهيم الأميركية:
ما الهدف من هذه السياسة؟
تهدف هذه السياسة الى فتح السوق و جعل العمليات التجارية حرة دون رسوم جمركية و هذا ما يمكن الدول الكبيرة مثل امريكا ان تغزو السوق بمنتجاتها التجارية قاضية على المنتجات المحلية للدول الصغيرة أو النامية، فبعد ان يتم فتح السوق تصبح القدرة التنافسية للسلع المحلية شبه معدومة، فان الرسوم الجمركية تساعد على زيادة القدرة التنافسية للسلع المحلية لان أسعارها على الأقل تكون منافسة للسوق الخارجي، إضافة الى أن خصخصة الشركات و المنشآت سيفسح المجال امام هذه الدولة للاستثمار في كل الدول عبر شراء المنشآت الحكومية (كهربا، مصارف، شركات اتصالات...)، كما تتبع هذه السياسة مبدأ تحرير العملات أي أنها ضد مبدأ تثبيت العملة، و ذلك لكي تصبح العملة قادرة على تحديد قيمتها الذاتية بحسب قدرتها في السوق.
في عام 2019 أبرز نائب وزير الخارجية الأميركي جو هود في كلمة له في جلسة للجنة العلاقات الخارجية مع لبنان والعراق، دعوته للحكومة اللبنانية على خصخصة بعض المرافق العامة والقيام بإصلاحات إدارية، كما دعت مجموعة الدعم الدولية لبنان في أواخر سنة 2019 (نقلا عن جريدة الأخبار) لتحرير العملة الوطنية "الليرة اللبنانية"، واعتماد الخصخصة في مختلف قطاعات الدولة، إضافة لوقف الدعم عن كل القطاعات الرئيسية.
لا تنفك امريكا عن التصريحات الداعمة للشعب اللبناني و الدولة، و تعلن تعاطفها معهم و تقدم الحلول للأزمات التي يشهدها و لكن يختلف سلوكها و يتناقض مع هذه التصريحات، على سبيل المثال تدخل السفيرة الأميركية إليزابيث ريتشارد في العام 2017 في السياسات التي يتبعها لبنان تجاه ايران و العراق، بالإضافة الى تحذير الجنرال جوزيف فوتيل في خطابه أمام الكونغرس في شباط العام 2018 من أن أي تعاون للدولة اللبنانية مع حزب الله يهدد المساعدات الأميركية المستمرة، أي أن المساعدات الأميركية مرهونة في الحرب ضد حزب الله و بهذا يتم التحكم في الاتجاه السياسي للدولة اللبنانية مقابل المساعدات الأميركية، كما أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في مؤتمر مجموعة الدعم الدولية للبنان أن مساعدة لبنان مرتبطة في اخراج حزب الله من الحكومة.
كانت لغة التهويل وتضخيم الأزمات واضحة في حديث وكالة بلومبرغ في العام 2019 حيث حذرت من أن لبنان في دائرة الخطر في 2020، وأن استقراره سيكون مزعزعا في حال تخلفه عن دفع سندات اليوروبوندز في التاسع من آذار، إضافة للتحذير الدائم للبنان من حزب الله الذي يتعارض مع مصالحها، واخافة اللبنانيون من شعبهم نفسه، وهذا ما ساق جزء كبير من الشعب اللبناني الى المظاهرات في 17 تشرين، كما اشار السفير السابق فيلتمان في العام2019 أن أزمة مالية تلوح في الأفق في لبنان، وأسماها بالكارثة أي ليست أزمة عابرة.
و قد تبلور ذلك في لبنان بعد وقوعه في الأزمة المالية التي بدأت في أواخر العام 2019، و قد ورد في صحيفة الأخبار للعام 2019 عن مؤتمر مجموعة الدعم الدولية للبنان التي فرضت المزيد من الشروط على شروط سيدر لكي تدفع لبنان للتوجه لصندوق النقد الدولي، و لم يكن الهدف من ذلك تحصيل الديون و الفوائد من لبنان انما كان الهدف تطبيق شروط صندوق النقد الدولي التي ستفرض على لبنان من خصخصة و تحرير للعملة و تقليص من العاملين في القطاعات العامة، إضافة لرفع الدعم عن قطاعات أساسية كالمحروقات و الكهرباء، كما اكدت وكالة بلومبرغ الأميركية أن الحل في لبنان هو صندوق النقد الدولي ، وقال جايسون توفي و هو من اهم خبراء الاقتصاد في "كابيتال" أنه يعتقد أن الصندوق سيطلب تخفيض قيمة العملة اللبنانية 50 % لإعادة هيكلة الديون.
ولا يمكن أن نغض النظر عن أن لبنان دولة تعتمد في اقتصادها على قطاعها المصرفي دون غيره من القطاعات و هذا ما جعل منه ضحية اسهل بالنسبة للدولة الأميركية ، و قد تم في الفترة الماضية توظيف التدخل في المصرف اللبناني عبر رياض سلامة حاكم مصرف لبنان الذي يتم تحميله الجزء الأكبر من فقدان الليرة قيمتها، يستوجب الحديث عن رجل أمريكا في لبنان، رياض سلامة، الذي قالت عنه السفيرة الامريكية في لبنان دوروثي شيا في تصريح لـ OTV انه "على لبنان تحويل أفكاره الإصلاحية إلى حقيقة، واتخاذ خطوات ملموسة لكسب التأييد الدولي، وأنه كان من الخطأ اتهام أي شخص أو مؤسسة بالانهيار الاقتصادي في لبنان" رداً على سؤال حول دور حاكم البنك المركزي رياض سلامة، وأشارت أنّه "يتمتع بثقة كبيرة في المجتمع المالي الدولي"، وحول دور سلامة، قال شيا إن الولايات المتحدة عملت معه عن كثب على مر السنين، وأضافت أن تعيينات البنك المركزي كانت مسألة سيادية، وقالت "إذا لم يكن لدى المجتمع المالي الدولي ثقة في قيادة المؤسسات المالية الكبرى في حكومتك فأعتقد أنك لن ترى تدفقات الاستثمارات يحتاجها الاقتصاد بشدة".
هذا ما حصل في لبنان حيث أن كل ما تقوم به امريكا من سياسات تعتمد على توظيفها لكل ما مر به لبنان من أزمات وتفلت سياسي واقتصادي، إضافة للانقسامات الطائفية فيه، وبعيدا عن المشاكل المفتعلة التي قامت بها فان امريكا استغلت هذه المشاكل لتأجيج الشعب وحثه للثورة الممنهجة وبدأت بدعم الثورة ضد الفساد وأوصلت أبواق هذه الثورة لما يخدم مصالحها عبر تأجيجها ضد حرب الله، كما نصحت الشعب بالحد من التدخلات الخارجية معارضة ما تنصحه بتدخلها في قرارات الشعب في التصدي لحزب الله.
خاتمة:
لا تنفك أمريكا عن تصريحاتها الداعمة للشعب اللبناني و الحكومة اللبنانية و تعلن تعاطفها مع اللبنانيين عند كل أزمة و تسارع لتقديم الحلول و لكنها في حقيقة الأمر لا تعمل الا ضمن اجندة تخدم مصالحها و مصالح الكيان الإسرائيلي، ففي الثامن من حزيران عام 2010 قال جيفري فيلتمان مساعد وزير الخارجية الأميركية حينها و على نحو علني أمام الكونغرس أن واشنطن أنفقت بعد حرب تموز 2006، خمسمئة مليون دولار أمريكي على حرب إعلامية تسعى الى تشويه صورة حزب الله، فقط لتشويه صورة أكبر حزب لبناني يمثل شريحة واسعة من المجتمع اللبناني فيما كانت أمريكا تقدم الدعم العسكري و المادي و السياسي للعدو الإسرائيلي طيلة فترة حرب تموز و ما بعدها، و اقتصرت مساعداتها للبنان على بضع هبات عسكرية يقال انها من الأسلحة التالفة أو آليات منتهية الصلاحية قدمت للجيش اللبناني ضمن شروط مقيدة، و بعيدا عن حرب تموز و في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان منذ العام 2019 فان واشنطن تمارس اقصى أنواع الضغوطات لمنع أي مساعدة ان تصل الى لبنان، و هددت مرارا باستخدام العقوبات الاقتصادية و المالية فيما لو حاول لبنان التوجه شرقا، و تحت عنوان سياسة الضغوطات القصوى على محور الممانعة تمارس واشنطن ابشع أنواع العقوبات على شعوب تلك الدول، و من المعلوم للجميع أن الولايات المتحدة وضعت حزب الله على قائمة الإرهاب منذ سنوات طويلة ، ومارست عقوبات مصرفية على أشخاص وكيانات ومؤسسات تدعي أن لهم علاقة بحزب الله، ومؤخرًا خرج بومبيو ليطالب دول العالم لتصنيف حزب الله إرهابيًا، وأكد أن الأزمة في لبنان يتحمل مسؤوليتها حزب الله.
إن أمريكا تبيح لنفسها سياسة فرض العقوبات وتجويع الشعوب، وتلقي المسؤولية على حزب الله، على الرغم من أن الحزب جزء من الطيف اللبناني، وبالفعل مارست الولايات المتحدة ضده أبشع العقوبات، لكن لماذا يدفع الشعب اللبناني الثمن؟ وأين ما تدعيه أمريكا من دعم للاقتصاد اللبناني؟ وماذا لو قدمت تلك الأموال المستعملة في تشويه صورة حزب الله ووظفت في مسار آخر يخدم بالفعل مصلحة الاقتصاد الوطني؟