۹۱۲مشاهدات
رمز الخبر: ۲۰۷۵
تأريخ النشر: 14 December 2010
شبکة تابناک الأخبارية: يتجه الفكر الاستراتيجي الأميركي القائم على أساس مكونات الصراع والقوة على ضرورة وجود النقيض، وبما أن الواقع السياسي الدولي لعالم ما بعد الحرب الباردة تميز باختفاء العدو، الأمر الذي جعل الإستراتيجية الأميركية تفتقر إلى الرؤية اللازمة للتحرك الخارجي- في ظل غياب عدو- وهو ما عبر عنه هنري كيسنجر بقوله: "إن هناك مشكلة عقلانية عميقة في السياسة الخارجية الأميركية اليوم، فإن غياب تهديد منفرد وساحق مثل التهديد الذي واجهته في سنوات الحرب الباردة يجعل الولايات المتحدة تفتقد الاتجاه الذي تسلكه".

إذن بات وجود العدو يمثل عاملاً ضرورياً كون التعامل معه يكون هو هدف الإستراتيجية، إضافة إلى أنه يمنح هذه الإستراتيجية قدراً من التأييد الداخلي ويعطيها شيئاً من الشرعية ويعمل على تحريرها من الضغوط والضوابط التي تختفي بحكم وجود الخطر الخارجي.

مأزق ما بعد الحرب الباردة
فقد الغرب بزعامة الولايات المتحدة مقومات ومبررات الصراع الشمولي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع التهديد الذي أدى إلى تقليص الاستثمار والإنفاق في ميدان الصناعة العسكرية، مما خلق فجوةً وتخبطاً في دوائر التخطيط الاستراتيجي وكذلك حاجة أميركية ملحة إلى وجود تحدّ جديد.

فعلى الرغم من أن تفكك القطب العالمي الثاني وهزيمته وانتهاء الحرب الباردة يعد انتصارا للقطب الرأسمالي، إلا أن ذلك شكل في نفس الوقت مأزقا، فالصراع هو جوهر العلاقات الدولية، والتفرد والقطبية الأحادية هي سمة نادرة وقلقة في تاريخ هذه العلاقات، مما أنذر بمباشرة صراع جديد وافتراق بين حلفاء الأمس الذي قد يأخذ أشكالا ليست عسكرية وإنما يباشر به تصاعديا من خلال مقتربات تنافسية في الميادين الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية كافة وسباق الوصول إلى مناطق النفوذ والتسويق والتي تعد بمجملها مقدمات لصراعات أكبر وبداية لتراجع تراتبيه الهيكلية الدولية إلى أشكال أخرى تحد من هيمنة القطب الواحد، وهذا بالتحديد ما يهدد الرؤيا الإستراتيجية الأميركية في أن يبقى هذا القرن أميركيا.

تحت هذه الحاجة انبرى مفكرون أميركيون يرتبطون بدوائر إستراتيجية وسياسية أميركية لوضع نظريات مستقبلية في مضامين وشكل وخواص الصراعات الدولية القادمة لا سيما بعد زوال الخطر السوفييتي "العدو" والذي كان السلعة التي تروج لها الولايات المتحدة.

جذور نظريات صنع العدو
إن فكرة خلق العدو والصراع معه لها ما يبررها موضوعيا، وهي فكرة كامنة في جذور الفكر الواقعي الغربي عموما والأميركي خصوصا، حيث يرى هيغل أهمية الحرب وتأثيرها في الشخصية الفردية وفي المجتمع، فهو يؤمن بأنه بدون احتمال الحرب والتضحيات التي تتطلبها سيصبح الإنسان لين العريكة ومستغرقا في ذاته، وسيتدهور المجتمع فيصبح مستنقعا لإشباع الملذات الأنانية فتنحل الجماعة وينهار المجتمع نتيجة لذلك.

لذلك يأتي خلق تحدٍّ من نوع جديد استجابة لمحاولة تجنب المجتمع الأميركي لحالة الانهيار وتراجع التأثير النسبي المتوقع لمكانة الولايات المتحدة في حالة غياب عدو يساعد على تقوية اللحمة بين أفراده، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر قطع الطريق على أي تفكير لأوروبا في قطع صلاتها مع الولايات المتحدة ومحاولة الانفصال عنها، وذلك من خلال إيجاد مخاطر مشتركة جديدة تهددها وتجعلها بحاجة دائمة لمظلة الولايات المتحدة الأميركية وتفادي انفراط عقد حلف شمال الأطلسي وإعادة تماسكه بعد تلاشي مبرراته.

فالولايات المتحدة تنظر إلى الهوية الأوروبية بوصفها خطرا يفرض عليها عزلة سياسية وعسكرية، بل إن هذه الهوية يمكن أن تفضي إلى إنشاء منظمة جديدة للدفاع الأوروبي تنافس حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي يدفع الولايات المتحدة إلى سحب قواتها المسلحة من أوروبا وربما تقويض بنية الحلف ذاتها، مما يؤدي لاحقا إلى استبعاد الولايات المتحدة وعزلها عن الشؤون الأوروبية مما يمكن أن يولد أخطارا حقيقية على الأمن القومي الأميركي، وذلك في حالة نجاح الدول الأوروبية في بناء قدر أكبر من التجانس والتوافق السياسي والأمني فيما بينها.

هذه النظريات جاءت كذلك لإعادة ضبط قوى خارجية أخرى كانت متحالفة مع الغرب طوال نظام القطبية الثنائية وخشية انفلاتها بعد غياب مفهوم التهديد الشامل، مما يخلق مشاكل حقيقية للولايات المتحدة على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية.

مما يعزز هذا الاتجاه داخل دوائر التخطيط الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأميركية قول الرئيس الأميركي الأسبق "ريتشارد نيكسون" بأن نهاية الأعداء القدامى غالبا ما تفضي إلى ولادة تحديات جديدة، ربما كانت أخطر من سابقاتها، لا إلى سلام وتعاون بين الأمم. هذه التحديات تنطوي على حاجة ماسة من قبل الولايات المتحدة إلى إجراءات عسكرية في المستقبل، لذلك ليس بوسعها خفض ميزانيتها العسكرية، مما يستدعي حشد التأييد الشعبي للإبقاء على جيش قوي على الرغم من الضغوط السياسية الداخلية الداعية إلى تخفيض الإنفاق الدفاعي بهدف تمويل مشاريع أخرى.

الحرب العالمية على الإرهاب
إن هذه الدعوات والنظريات بتحويل خارطة الصراع الدولي الجديدة من الإطار الثنائي الإيديولوجي الذي ساد الحرب الباردة إلى خطوط حضارية ثقافية قديمة، قد أفضت أخيرا إلى تحقيق الهدف المرجو منها، وهو إيجاد عدو، وهذا هو ما يجري من إعلان حرب عالمية تحت غطاء ما يسمى الحرب على الإرهاب التي يجري التحشيد لها عالميا وداخليا وتشن تحت ذريعتها الحروب العسكرية.

رافق الدعوات التنظيرية الجديدة لمستقبل الصراع الدولي على أساس حضاري مد أصولي وأرضية نفسية ملائمة لإعادة تشكيل خطوط الصراع القادم، ولم تجد دوائر التخطيط الأميركية عدوا يوفر لها مواصفات شمولية أكثر من عباءة الإسلام بوصفه أولا فكرا ذا طبيعة أممية، وثانيا ينتشر من الناحية الجغرافية في مناطق واسعة من العالم، مما يتيح هامشا أكبر من حرية استهداف الأعداء الجدد.

لقد وفرت الحرب العالمية على الإرهاب والتي أصبحت قرينة بالتطرف الإسلامي تهديدا جديدا ومناسبا للولايات المتحدة لإعادة ضبط إيقاع النظام السياسي الدولي، وشحن أوروبا خلفها من جديد وشكلت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر المثيرة للجدل قدحة الزناد في إقناع وإرهاب الرأي العام الأميركي والعالمي بنمط جديد من التهديدات، وانطلاق حرب عالمية جديدة من أهم مواصفاتها عدم وجود جبهة أو حدود، دشنت الولايات المتحدة هذه الحرب بإعلان مجموعة دول على أنها مارقة ومحور للشر، فباشرت باحتلال أفغانستان عام 2001 لأنها اتهمت بالتخطيط وتنفيذ تفجيرات برجي التجارة العالمية، وكذلك احتلت العراق عام 2003 تحت بند العلاقة مع تنظيم القاعدة وامتلاك أسلحة دمار شامل والقدرة على تصنيعها خلال 45 دقيقة، يستطيع من خلالها استهداف أميركا وأوروبا.

واليوم بعد تضاؤل الاهتمام بالعراق وأفغانستان، فإن الاستعدادات تجري على قدم وساق وبنفس الإيقاع لخلق نموذج جديد في "صناعة العدو"، حيث يتم تصوير إيران على أنها تهديد دولي للسلم والأمن الدوليين، وأنها قد تستهدف بأسلحة نووية كلا من أوروبا وإسرائيل، ونشرت لهذا الغرض منظومات صواريخ ودروع ومظلات في أوروبا ودول عربية في الخليج الفارسي وعقدت صفقات خيالية للأسلحة بقصد مواجهة وتهويل الخطر الإيراني الداهم؛ ومما لا شك فيه أن إيران لا تسعى لأكثر من دور إقليمي، لكن في نفس الوقت فإنها قد دخلت مخطط صناعة العدو الأميركي، ولن تستطيع الإفلات من هذا الفخ رغم مناوراتها ومحاولاتها تحسين شروط تفاوضها من خلال امتلاكها أوراقا في العراق ولبنان وأفغانستان، لكن هذه المناورات لا تتعدى عملية تأجيل وتأخير.

ومن المفارقة أن فترة التأخير تحتاجها في نفس الوقت الولايات المتحدة، وبالتحديد محور الصناعات النفطية- والعسكرية، لتسخين الرأي العام الأميركي وإقناع دافعي الضرائب لتمويل الحرب القادمة، ولكي تمضي فترة مناسبة لنسيان كوارث حربي العراق وأفغانستان، فالأمر لا يتعلق بمدى التزام إيران بالقانون الدولي بل بمدى مطابقتها كهدف جديد ونموذج مثالي قادم يفي بمتطلبات وقوانين "نظرية صناعة العدو" في دوائر التخطيط الأميركية.
رایکم