۶۵۷مشاهدات
رمز الخبر: ۶۴
تأريخ النشر: 23 July 2010
I ـ بيئة العمالة و«التوافق» اللبناني: نبه السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، من تفشي العمالة بين اللبنانيين. رأى الى الظاهرة وخطورتها، في مجتمع بات يعتاد على التعامل بخفة مع هذه الجريمة، ردد أن المستوى بلغ دركاً متدنّياً، في اعتبار الخيانة وجهة نظر.

حذر السيد من بيئة الخيانة، المولدة والحاضنة وأحياناً المدافعة عن عمالة. ويبقى أن ما قاله السيد، مراعياً الحساسيات اللبنانية، أقل مما يجب أن يقال، فغياب المحاسبة «بقرار توافقي»، وغياب العقوبة المناسبة، لضرورات «التوافق»، وتناسي الماضي، لأن لبنان لا يحتمل فتح الجراح، وألف «لأن» مشابهة. لا تلجمنا عن فتح ملف، أغلقه «التوافق» مراراً، حفاظاً على ما قد يتبقى من لبنان.
 
كان اكتشاف عميل أو جاسوس، كل عقد أو عقدين من الزمن في لبنان، يثير ردود فعل حاسمة. ومع تطور الطوائفيات ونموّها وغلوّها واكتساحها، البنى السياسية في لبنان، واستجداء هذه الطوائفيات، قوى خارجية لتدعيم مواقعها أو تنفيذ طموحاتها الشهوانية، وصلت الأمور الى استجداء إسرائيل والتعامل العلني معها، وفتح بيروت بالمدفعية المشتركة.ماذا كانت نتيجة ذلك؟

العفو عما مضى من خيانات... لم يندم أحد، لم يعتذر أحد... لم يحاسب أحد... وصار البيت اللبناني حاضنا لخيانات بحجم اجتياحات. خرج الإسرائيلي واستمر العملاء. ثم تحرر الجنوب. وحصل تواطؤ «توافقي» على المحاسبة «بالتي هي أحسن»، وليس بالتي هي تستحق من عقوبة. ويحكى عن عودة عديد هؤلاء الى الحياة السياسية والطائفية، بكفاءة «توافقية» نموذجية.عقوبات يسيرة. لم يمت الذئب، ولكن الغنم قد فني.

سؤال: أي بيئة مزغولة هي البيئة اللبنانية؟ سؤال آخر: «هل جرت إعادة تأهيل وطنية لمن نال عفواً بالتوافق؟ سؤال لا بد منه: «كيف يجلس الجميع إلى طاولة مجلس الوزراء، بالتوافق، ويفاجأ بأن بيئات لبنان السياسية، منتجة لأردأ أنواع العملاء؟

II ـ «بيت بمنازل كثيرة» مقفلة!
حدد الدكتور كمال صليبي مكان إقامة لبنان. تاريخه يدل على أن شعوبه أقامت ردحاً من أزمنة في «بيت بمنازل كثيرة». وفي هذا البيت (مشروع الوطن المستحيل) شروط للإقامة السليمة، وقد كانت نادرة، ومحاذير للإقامة الحذرة، وقد كانت شاقة جداً.

غالباً ما حوّل اللبنانيون «بيتهم» الى ركام، حريقه من داخله ورياحه من خارج قريب و... بعيد. هو وطن مغلق من دواخله. مقفل الأبواب في ما بينه، ومشرّع لكل ما يهب ويدب في محيطه الغريب ومحيطاته النائية.

كان لا بد من تغيير العنوان الذي ابتدعه صليبي. فبعد امتحانات لبنانية دامية، مشبعة بالأحقاد، مثقلة بالاتهامات والارتهانات، وبعد صخب الأعوام العشرة الفائتة، بما أوتيت من دفع طائفي وغلو مذهبي أفضيا الى امتناع التوافق (بلد الديموقراطية التوافقية)، والإقامة على شفا نقيضين حادين كحد السيف، بات من المنطقي تغيير مكان إقامة لبنان، المحايدة تقريباً، من «بيت بمنازل كثيرة» ليصبح نزيلاً في مكان إقامة جديد: «بيت بخيانات متبادلة».

...ويسألونك عن العملاء والجواسيس والخيانات! ويطيب لهم أن يجدوا في التفسير تبريراً، لا قصاصاً. وتطمئن نفوسهم، إذا توزعت الخيانات بالعدل. فالتعادل في الخيانة، مطلب وطني، حفاظاً على «السلم الأهلي»، بعد خراب الروح وفقدان الصواب الإنساني.

...ويسألونك، لماذا تتكاثر العمالة في بلد، لم تكف مقاوماته المتسلسلة عن التضحية، منذ العام 1968 والعرقوب و«فتح لاند»، وصولاً الى المقاومة الإسلامية، مروراً بقافلة من بواسل الأمة، بأسماء قومية ويسارية وشيوعية وعلمانية وبعثية وما فاضت به كرامة أمة؟ من أين هذا الدفق من العملاء؟

III ـ بابل الانتماءات والخيانات: «بيتي بيت صلاة يدعى وقد جعلتموه مغارة للصوص»، حمل المسيح سوطه وطرد خونة البيت خارج فنائه. كانوا جمهرة من الفريسيين و«أولاد الأفاعي» (وهي شتيمة غليظة لم يتورع المسيح عن استعمالها بشدة).

البيت اللبناني المتعدد، يتربى فيه شعبه على قياس نزعاته وميوله وغرائزه. يتأهل في بيئات متنابذة. مرجعيته الوطنية، مطارح ثقافية ومذهبية مضادة للوطن. الوطن وحدة ناسه على اختلافهم الطبيعي، فيما لبنان، فرقة ناسه على اختلافاتهم المصطنعة. «لا بنيت من الشوك عنب، ولا من العوسج تين». البيئة اللبنانية، خائنة للبنان، وفيّة فقط، لأوصياء القبض على لبنان واللبنانيين.
 
ماذا يتعلم اللبنانيون في بيوتهم؟ ماذا يدرسون في مدارسهم؟ أي تربية وطنية تحضنهم؟ أي سمّ وطني يرضعون؟ أي ثقافة سياسية يتدثرون؟ أي لغة يتكلمون؟ أي بابل هذا البلد؟

نصف شعبه يخوّن نصفه الآخر. ولا براءة لأحد. إسرائيل عدو وشر مطلق لقسم من شعبه، وجار لا مفر منه (في التعبير المبرمج على النفاق) لقسم آخر. سوريا شقيق مميز، لبعضه، وشقي مميز لبعضه الآخر. فلسطين قضية مقدسة وانتماء قومي وعاطفي ووجداني وسياسي، لبعضه، وهي ذاتها، مأساتنا وفضيحتنا واختلافنا ولا طاقة لنا على الاقتراب منها، بل هي شر يلزم تجنبه.
 
كوندليسا رايس، شقيقة تستحق خطف قبلة لمراضاتها، وسيسون شقيقة أخرى، تستحق استقبالا حافلا، وتصفيقاً حاراً، أشد وقعاً من الترحيب بغبطة البطريرك الماروني، في معقل بكركي بالذات.

وهاتان الشقيقتان، ملعونتان في لبنان الآخر. وفي لبنان، أكثر من لبنان. فلكل منا لبنانه، النافي للبنان الآخر. أليس من هنا تنبت السياسة، ومن ذيول السياسة هذه، يصير الحرام حلالاً، وما هو على ذمة الحلال يتحوّل حراماً.

 فأي وطن هذا الذي ليس فيه مواطن واحد ينتمي إليه من خلال علاقته المباشرة به... كل مواقف لبناني، مدعي وطنية. وطنه طائفته، فإن ذهبت شرقاً شرّق معها، وإن غربت غرّب بها. وأن تدولبت، مثل دواليب الهواء، دار معها 360 درجة.
 
هذا في الأساس، أما في مفارق الحياة، فأي ثقافة تسود اليوم، خارج بيئة المقاومة ومن معها؟ في أي بيئة اقتصادية يعيش اللبناني: «ثقافة الربح السريع. الحياة سلعة. القيم سلعة، العلم سلعة. الدين سلعة». كل ما يمت الى «الفاست فود» هو لبنان اللبنانيين. يريد اللبناني أن يصير ثرياً، إما بهجرة مبشرة، وإما بصفقة مدبرة، وإما بمفسدة مقررة، وإما بسمسرة غب الطلب... يعيش اللبناني وفق نمط بطلت فيه القيم، بل خسفت فيه الأخلاق. فصاحب القيمة مذموم ومرذول ومهان، وصاحب الأخلاق متخلف وغير عصري ويحكي كلاماً منفوخاً.
 
بعضه، هذا اللبنان، يتباهى بأنه يدوس على القيم والقوانين، ولا يقيم وزنا إلا للثروة، ولا يستطيب إلا «الدفع الرباعي» في السياسة والوطنية والاقتصاد والسيارات، فأي مواطن تستولده هذه البيئة؟ أي ضمانة يتسلّح بها، كي لا ينزلق إلى اللاوطن؟

IV ـ من يعلّم الناس الحرام؟
حلم اللبناني الحديث، أن يترك وطنه. يحلم بالسفر والهجرة، وكسب جنسية ثانية، خوفاً من غدر الأزمنة اللبنانية. جيل بعد جيل، يترك اللبنانيون لبنانهم يأساً منه، ومن سياسييه ومن سياساته... حتى الطوائفيون يخونون طائفتهم ويخلعون عنهم لبنان، من أجل، إما لقمة عيش كريمة، وإما لبذل كرامة للقمة لئيمة، في مغترب يستحوذ على جهدهم وعقلهم وعطائهم.
 
ويأس اللبناني الحديث من إصلاح «بيته بمنازله الكثيرة»، يأس مبرم، لا جدال فيه. هو يائس من السياسة. يعرف بحسه أنها فاسدة، ولو كان شريكا فاعلا فيها، بدافع غريزته الطوائفية، يعرف انه في خضم صراعه الطوائفي، لن يصل إلى إصلاح. إذا تعاطى السياسة، فبكيدية فالتة، وليس بهدف سياسي يرجح العمل الوطني. يائس من إصلاح أدنى مرفق حيوي. يائس من الضوء، من الماء، من التعليم، من سوق العمل، من الطرق، من الريف، من المدينة، من «ثورة العقارات»، من أرباح المصارف... ويولّد اليأس الكفر بالوطن، ولو كان وطنه روحياً في مصاف القديسين.

... ويسألونك، لماذا هذا الكم والنوع من العملاء؟ ولماذا لا يسألونك مثلا عن هؤلاء الذين لم يسألهم أحد، أو لم يجرؤ أحد على سؤالهم: «من أين لكم هذا وذاك وذلك وهكذا دواليك»؟ نعم. من أين؟ كيف؟ وبأي سرعة؟ وفق أي قانون؟ وطن سائب يعلّم الناس الحرام.

ثم، لا يحلم اللبنانيون أحلاماً متشابهة. من يحلم بالتحرير لا يجد شريكاً له، من مضارب الأحلام الأخرى، لكل طائفة أحلامها. يفتش اللبناني عما يَتّهم به لبنانياً آخر من غير طائفته وملته ومنبره السياسي. يريد أن يلصق به تهمة. عالم السياسة في لبنان ممتنع عن البراءة. الكل يتهم الكل، وعليه، اللبنانيون في معظمهم، إما إيرانيون أو سعوديون أو سوريون أو أوروبيون عالميون أو من أتباع «المجتمع الدولي» بقيادة باراك أوباما بوش. كوم.

ولائحة الاتهام الســياسية بلغــت من الغلوّ أن بات كل فــريق، من فريقي السلطة، يتهم عن جد، وبفعالية، وبشدة، بأنه مســيّر، ولا وجود ذاتياً له. فالمقاومة إيرانية ـ سورية، تسليحاً ونقداً، وجماعة 14 آذار، كلهم، من جماعة آل سعود، نقداً وعداً وعديداً (بلا عدة). والبعض لا يشرب إلا من النبع العالي، من واشنطن تحديداً.
 
وعليه، فإن من كان يتهم سوريا بقتل الحريري، يطيب له، بعد فشل التهمة الأولى، أن يكون حزب الله هو المتهم، وأن بلمار على حق، حتى ولو أخفى في إضباراته ملف شهود الزور.
أي لبنانيين هؤلاء الذين لا يعيشون إلا على التخوين المتبادل، أي بيت هذا البيت الذي تتربى فيه الخيانات المتبادلة، إلى حد تعليق لبنان برمته، على منعة الإعدام. كما حدث بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ثم... وبناء عليه... فإن أجهزة الدولة المختصة بالكشف عن العملاء، مختصة أساساً في إيقاع الخصوم الطائفيين، في مصيدة الاتصالات، التي قد تقدم حجة على تورط عناصر من حزب الله، في الجريمة.
 
V ـ القرار الظني.. والظن به: يعيش اللبنانيون أياماً عصيبة. يسألون عن موعد الفتنة. يحيون إرهاصاتها، قبل إعلان القرار الظني. قرار يصوّب على عناصر حزب الله، بعدما كان متوقعا بشدة، منذ سنة تقريباً، أن يصوب على سوريا.

قيل، وللقول أرجحية هنا، إن ملف الاتهام الأول (وهو لم يصدر) تم وضعه وتصنيعه وتبويبه وتلقينه، من خلال قوى لبنانية، تعاونت مع شهود زور معلنين ومعروفين، لتدبيج شهادات أخذت التحقيق في اتجاه اعتقال أربعة ضباط، واتهام النظام السوري بالجريمة.

وفشلت المحاولة. أطلق سراح الضباط، وسراح شهود الزور لا يزال طليقاً. لم يستدعهم أحد. ممنوع المساس بهم. محرّم تسليم ملفاتهم، كي لا تكشف المحاكمة الخيانة الكبرى التي ارتكبها كبار جداً، في علم التزوير.

وقيل أيضا، وفي القول أرجحية، إن الاتجاه الراهن للقرار الظني، قد تم رسمه وتخطيطه وتبويبه وتلقينه، من خلال القوى اللبنانية ذاتها، فبرّأت سوريا، وقدمت رزمة من الشواهد تقوم على اتصالات قام بها أعضاء ينتسبون إلى حزب الله.

ليس شربل ق. ومن قبله ومن بعده، سوى أدوات تنفيذية صغيرة، في عملية تزوير كبرى، تجري في أقبية محلية، تتنصت وتحلل وتلصق التهم بالمقاومة. ليس للخيانة دين أو مذهب؟ صح.

لكنّ لها عمقاً في ثقافة لبنان السياسية. ثقافة تسمح لفريق لبناني بطعن فريق آخر... كلما سنحت له قوة خارجية تساعده.
المصدر: جريدة السفير اللبنانية
رایکم