۲۵۵مشاهدات
هدأ غبار حادثة إسقاط مقاتلات تركية لقاذفة روسية من طراز سوخوي، وبدأت الحقائق والتبعات المترتبة على هذا العمل بالظهور الواحدة تلو الأخرى، وسط أجواء من التوتر في تصاعد، واحتقان كبير من الغضب، في الجانب الروسي حتماً.
رمز الخبر: ۳۰۱۳۳
تأريخ النشر: 30 November 2015
شبكة تابناك الإخبارية : وبدأ ذلك يتضخم وينعكس في إجراءات انتقامية ظهرت السبت عندما وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يعيد العمل بالتأشيرات بين بلاده وتركيا، ويوقف الطيران السياحي بين أنقرة وموسكو، ويمنع رجال أعمال من توظيف أتراك، ومن المؤكد أن هذه الإجراءات هي البداية، وقد لاتكون بديلاً لعمل عسكري انتقامي.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدأ يدرك أنه أقدم على مغامرة أو مقامرة خطيرة بإسقاط الطائرة الروسية، بعد أن وجد نفسه وحيداً في مواجهة الروس، حيث التزم جميع حلفائه الصمت، ولم يظهروا إلا الحد الأدنى من التضامن اللفظي، خاصة في حلف الناتو،   وزعيمته الولايات المتحدة الأميركية.

الرسالة التي وجهها حلف الناتو إلى الرئيس أردوغان وعبرت عنها افتتاحية مجلة الايكونوميست الناطقة غير الرسمية بأصحاب القرار في الغرب الرأسمالي، تقول أن إسقاط الطائرة الروسية كان يمكن تجاوزه مهما بلغت حدة الاستفزاز الروسي، وكان الأجدى بالرئيس التركي أن يتحلى بضبط النفس، لأن مثل هذه الخطوات "الانفعالية" تعرقل الحملة التي تهدف إلى محاربة داعش، وإذا أرادت تركيا أن تسقط نظام الرئيس الأسد فقد كان عليها أن تتحالف معها لا أن تحاربها.

***

من يتابع تصريحات الرئيس أردوغان والمسؤولين المحيطين به هذه الأيام يخرج بانطباع واضح، لا لبس فيه، مفاده أنه استوعب هذه الرسالة جيداً، وبدأ يحاول التراجع والبحث عن سلم للنزول عن الشجرة، التي وجد نفسه في قمتها بعد إسقاط الطائرة الروسية.

السبت أعرب الرئيس أردوغان "عن حزنه لإسقاط الطائرة، وتمنى أن لا تتكرر هذه الواقعة، مثلما تمنى أن تعود الأمور إلى مجاريها بين بلاده وروسيا، وأن يلتقي نظيره الروسي في باريس الاثنين على هامش قمة المناخ التي ستعقد هناك، أما السيد نعمان كوردولوش نائب رئيس وزرائه، فقد أظهر كل مؤشرات الندم عندما قال السبت أيضاً "إن إسقاط الطائرة الروسية لم يكن عملاً متعمداً، ولم نكن نعلم أنها طائرة روسية".

مقارنة هذه التصريحات ذات الطابع المهادن، البعيد عن الانفعال والتهديد، بنظيراتها التي صدرت في الأيام الأولى للأزمة التي عكست التهديد والوعيد لكل من يخترق الأجواء التركية، وتحذير الرئيس أردوغان نفسه نظيره الروسي "بأن لايلعب بالنار"، توحي بحدوث انقلاب في الموقف التركي، ورغبة أكيدة بالتراجع واللجوء إلى الحكمة والعقل، وبذل كل ما يمكن بذله من جهود لتطويق الأزمة.

المسألة، أو الأزمة، ليست طريقاً من اتجاه واحد، فهناك طرف آخر، أي الروس تعرض للإهانة، وصورته السياسية والعسكرية اهتزت، في أنظار مواطنيه والعالم، من جراء الخطوة الانفعالية التركية التي تركت جرحاً غائراً في كبريائه، والحلول لا يمكن أن تكون مجرد "تبويس لحى" على الطريقة العربية، فالرئيس أردوغان لا يتعامل هنا مع رئيس عربي ضعيف منبوذ من شعبه، وإنما رئيس دولة عظمى في حال صعود، تحدى حلف الناتو في عقر داره، واستعاد شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي، ووضع يده على نصف أوكرانيا، ومن قبلها اسيتيا الجنوبية (ثلث جورجيا)، وأسقطت صواريخه طائرة ركاب ماليزية.

ما نسيه الرئيس أردوغان أنه يتزعم دولة تعدادها 70 مليون مسلم وصلت قواتها إلى فيينا، ورفضت الدول الأوروبية قبولها في اتحادها للسبب نفسه، فهذه الدول لم تغفر له وأجداده السلاطين العثمانيين احتلالهم أراضيها، وفتح بوابات الحدود التركية لتدفق مئات آلاف اللاجئين السوريين.

والأهم من ذلك كله، أن حلف الناتو لم يدخل حرباً لنصرة أوكرانيا الأوروبية الشقراء، التي تدفع ثمناً غالياً جداً من أمنها واستقرارها ووحدتها الترابية لأنها أرادت الانضمام إليه (حلف الناتو)، والحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، فهل يتوقع الرئيس أردوغان أن يدخل هذا الحلف في حرب نووية ضد روسيا بسبب انتهاك طائرة سوخوي لأجواء تركيا لمدة 17 ثانية؟

كنا من أكثر الناس إعجاباً بالنموذج السياسي والاقتصادي التركي، وسياسة "صفر مشاكل" مع الجيران التي ارتكز إليها، والتزاوج الرائع والعقلاني بين الاسلام والديمقراطية، ولكن هناك من العرب للأسف من أراد تدمير هذا النموذج وجر الرئيس اردوغان مفتوح العينيين إلى المصيدة السورية، تماماً مثلما جروا الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين إلى الحربين الايرانية والكويتية.

***

نشعر بالحزن والأسى عندما يهاتف الرئيس التركي الكرملين طالباً الحديث مع الرئيس بوتين ولا يجد من يلتقط سماعة الهاتف ويرد عليه، أو عندما يطلب لقائه على هامش اجتماعات قمة المناخ في باريس، ويوسط الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لترتيب موعد ولا يتلقى جواباً.

الرئيس أردوغان بإسقاطه الطائرة الروسية قدم أكبر هدية للرئيس الأسد عدوه اللدود، وحليفه الايراني، وحوّل سوريا إلى غابة من الصواريخ الروسية الأحدث في العالم، وبدد كل أحلامه (أي أردوغان) في إقامة مناطق حظر جوي في حلب و شمالها.

منّ يجر الدب إلى كرمه بكل هذه السهولة، ويقدم له كل الأعذار، ويفرش له السجاد الأحمر بإسقاط طائرة لا يزيد ثمنها عن بضعة ملايين من الدولارات؟

نشارك الرئيس أردوغان في أحزانه لاسقاط الطائرة، وتمنياته بأن لا تتكرر هذه الواقعة، وأن تعود الأمور إلى طبيعتها مع موسكو، وإن كان يخامرنا الكثير من الشك في احتمال تحقق هذه التمنيات.

راي اليوم - عبد الباري عطوان

رایکم
آخرالاخبار