۴۳۹مشاهدات
رمز الخبر: ۳۰۰۳۹
تأريخ النشر: 21 November 2015
ينة الرقّة الواقعة شمالي القطر السوري أصبحت اليوم مركزاً لخلافة تنظيم داعش الإرهابي ممّا جعلها مسرحاً لأحداث هامّة استقطبت أنظار الولايات المتحدة الأمريكية ومن لفّ لفّها، فبعد أن تبنّى هذا التنظيم مسؤولية الأحداث الدامية التي عصفت بفرنسا قبل أيام، بادرت باريس إلى قصف أهداف في مدينة الرقّة بواسطة 10 مقاتلات من طراز رفائيل.

وقبل عدّة أسابيع قامت طائرات التحالف الأمريكي ضدّ داعش بقصف اجتماع لبعض معارضي الإرهابي أبي بكر البغدادي. هؤلاء المعارضون هم في الحقيقة قادة سابقون في التنظيم لكنّهم انشقّوا عنه بسبب خلافات داخلية حيث عقدوا اجتماعاً مع بعض قادة الحركات المسلحة الأخرى التي لا تسير على خطّ أبي بكر البغدادي في الملعب البلدي في الرقة والمعروف بالمنطقة الحادية عشرة لأجل إعلان انشقاقهم بشكل رسمي والرجوع عن البيعة لخليفتهم المزعوم، لكن سرعان ما شنّت الطائرات الأميركية غارة استهدفت تجمعهم أودت بحياة 27 قائداً بارزاً في التنظيم، ومن أبرزهم أبو حمزة الولي وأبو علي الأنباري ووالي الرقة والمسؤول الأمني لداعش أبو أنس العراقي، كما قتل في هذه الغارة المنسّق مع المخابرات التركية لتجنيد الإرهابيين في مصر وإرسالهم إلى سوريا.

بعد هذه الهجمة الجوية حدثت في المناطق المحاذية للمنطقة الحادية عشرة نزاعات مسلحة بين إرهابيي داعش ومن ضمنهم حامد الدليمي الذي يعد الرجل الأوّل لهذا التنظيم في مدينة الرقة بعد البغدادي حيث تمكن من الفرار بمساعدة بعض زملائه ليقود تيارا إرهابيا جديدا مناهضا للبغدادي، لكنّ الطريف في هذه الأحداث أنّ هذا الإرهابي عند وصوله إلى سدّ البعث بحثاً عن مأوى آمن سرعان ما اصطادته الطائرات الأمريكية فأحرقته مع السيارة التي تقله بصاروخ ذكي ليتلاشى جسده مع ثلاثة ممن كانوا معه.

هناك العديد من الأسئلة والاستفسارات التي تطرح في خضمّ هذه الأحداث المثيرة للجدل، ومنها: ما هي الأهداف التي تروم واشنطن تحقيقها من وراء التحالف المزعوم ضدّ داعش؟ لماذا تتّبع سياسة ازدواجية في التعامل مع هذا التنظيم الإرهابي ولا تستهدف مقرات قيادته رغم التكنولوجية العسكرية المتطورة التي تمتلكها؟
حسب المعلومات والتحليلات الإيديولوجية فإنّ دور جهاز المخابرات الأمريكية في هذه اللعبة القذرة يتجاوز البعد الاستخباري والتغلغل في سلّم قيادة الدواعش، والواقع أنّ السي آي أي يقوم بدور العامل المحرّك الإيجابي في هيكلية التنظيم وقيادته، حيث يبذل الأمريكان كلّ مساعيهم لمعالجة أيّ خلاف يحدث بين الخطّ الأوّل لإرهابيي داعش بغية إبقاء تنظيمهم متماسكاً وفاعلاً لكون ذلك يضمن تحقّق المصالح الاستراتيجية لواشنطن في الشرق الأوسط.
لا شكّ في أنّ هيكلية تنظيم داعش الإرهابي ذات تركيبة معقدة يصعب اختراقها من قبل أجهزة المخابرات ووسائل الإعلام غير الموالية للمدّ التكفيري، ولكن ما يثير الاستغراب حول هذا التعقيد هو التحالف الوطيد بين الفكر السلفي التكفيري الذي يتنافر مع كلّ فكر آخر وبين ضباط قوميين عراقيين دون أن نلاحظ أيّ تناقض في الهيكلية القيادية والتنظيمية لحركة داعش، وبالتالي ليست هناك خلافات محتدمة تدلّ على قرب انهياره من الداخل.

البنية السرّية المعقدة لهذا التنظيم الإرهابي وصعوبة التغلغل في سلّم قيادته، بل وحتّى في مكوناته الأخرى، دليل على أنّه ليس مجرد حركة إرهابية مسلحة تفرعت من تنظيم القاعدة أو أنّها حركة تكفيرية بحتة استقطبت الشباب العاطلين عن العمل والذين يعانون من أمراض وعقد نفسية، لذا هناك تساؤل يراود أذهان كل من يتأمل في حقيقة ما يسمى بدولة الخلافة الإسلامية بقيادة أحد المجرمين الفارّين. فكيف تمكن البغدادي من الحفاظ على قيادته الكاريزماتية طوال هذه الفترة؟ ولماذا تتمّ تصفية كلّ من يعارضه فوراً؟ وما هي الجهة التي تمتلك هذه القدرة الفائقة على اغتيال معارضيه أينما كانوا؟ ومن أين تحصل هذه الجهة السرّية على المعلومات المرتبطة بالنشقين وأماكن تواجدهم؟

أحد هؤلاء المنشقين هو الإرهابي حامد الدليمي الذي لم تدم حياته طويلاً بعد أن أعلن عن معارضته للبغدادي، فهو خبير عسكري لأنّه كان ضابطاً برتبة رفيعة في جيش صدام حسين ومن ثمّ أصبح اليد اليمنى للخليفة المزعوم. هذا الإرهابي في الحقيقة يعدّ واحداً من رموز حزب البعث المنحل والذي يتبنى أفكاراً اشتراكيةً وقوميةً عربيةً، لذلك حدثت خلافات بينه وبين البغدادي الذي يتبنّى أفكاراً سلفيةً تكفيريةً، لكنّ هذا الخلاف خمد كلمح البصر بعد أن احتوته قدرة عظمى تفوق قدرة تنظيم داعش.

إذن، لو دقّقنا في الأسباب التي دعت واشنطن إلى تصفية الدليمي سندرك أنّ قيادة تنظيم داعش كقطبي المغناطيس المتنافرين، أي أنّهما في جسد واحد ولا ينفكان عن بعضهما رغم تنافرهما، الأمر الذي يعني أنّ الأيادي التي صاغت هذا التنظيم هي حلقة الوصل بين قطبيه ولا تسمح أبداً باضمحلاله إلا حينما تقتضي مصالحها ذلك.

لقد عكس اغتيال حامد الدليمي من قبل واشنطن خطورة المخطط الرهيب الذي حيك للمنطقة وللعالم خلف الكواليس عند تربية أبي بكر البغدادي حينما كان قابعاً في سجون الاستخبارات الأميريكية في العراق، إذ جنّده الأميركيون لتأسيس تنظيمٍ غير متجانسٍ يتكون من سلفيين تكفيريين وضباط بعثيين بغية تحقيق مصالح استراتيجية أمنية. والملعب الأول اليوم هي الساحة السورية، لذا نجد أنّ أيّة محاولة للمساس بهذا التنظيم الإرهابي تواجه الفشل فور انطلاقها لكون البيت الأبيض هو الراعي والداعم من وراء الكواليس.

استناداً إلى ما ذكر يمكن القول إنّ العلاقة بين داعش وواشنطن ليست علاقة تكتيكية فحسب، بل إن التغلغل الاستخباري الأميركي في أروقة التنظيم السرّية لا ينحصر في كونه استخبارياً فقط، بل إنّ الأميركيين هم المشرفون الحقيقيون على الأعمال التي يقوم بها الدواعش والمسيّرون لهم بشكل مباشرٍ، وهذا الأمر لم يعد اليوم خفياً على أحدٍ لأنّه أصبح واضحاً وضوح الشمس لا سيما لو قارناه مع المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة والعالم والتي أمست اليوم بحاجة ماسّة إلى نشاطات من طراز ما يفعله أتباع البغدادي ومن لفّ لفّهم، لذلك فالمواقف الأميركية التي تظهر للعيان بكونها مناهضة لهذا التنظيم الإرهابي هي في الواقع ليست سوى إجراءات تكتيكية لذرّ الرماد في العيون ليس أكثر.

إذن، هناك عدّة آراء مطروحة للإجابة عن السؤال حول الأهداف التي تروم واشنطن تحقيقها في شمال سوريا، وهي:

أوّلاً: لم تدخّر الولايات المتحدة جهداً لتصفية معارضي أبي بكر البغدادي بذريعة محارية داعش لأجل الحفاظ على كيان تنظيمه الإرهابي فعالاً، ولكي يصبح هذا التنظيم في شمال سوريا حجةً مناسبةً للحضور الأميركي في المنطقة وإرسال مساعدات عسكرية لكلّ من يسانده.

ثانياً: بعد أن قامت روسيا بقصف مقرّات "داعش” في الرقّة، بادرت المخابرات الأميركية إلى تأسيس تنظيمين مسلّحين مستقلّين في شمال سوريا وفي الحسكة، فالأوّل أطلقت عليه اسم (جيش سوريا الجديد) وهو يتألّف من الأكراد والآشوريين والمسيحيين، والثاني تنظيم في إطار الحركة الديمقراطية؛ حيث قامت بتزويدهما بالسلاح وتدريب منتسبيهما وتقديم الدعم اللوجستي لهما بصفتهما تنظيمين معارضين للحكومة السورية. وقد تمكّنت هاتان الحركتان من تحرير مدينة الحول وتتّجهان اليوم نحو تحرير مدينة الشدادي وفق مخطّط أميركي، فالمقاتلات الأميركية في بادئ الأمر تقوم بقصف المناطق المراد تحريرها وبالتالي تقوم القوات الموالية لها باقتحامها.

ثالثاً: تهدف واشنطن إلى تأسيس حكومة كردية في شمال سوريا وحكومة انتقالية في سائر المناطق السورية اعتماداً على هذين التنظيمين، لذلك فهي مضطرّة حسب هذا السيناريو لأن تسيطر على مدينة الرقّة بشكل علنيّ ومباشر وتدمّر مواقع داعش قبل إقدام روسيا على ذلك. وهذا الأمر يتطلب بطبيعة الحال التعاون مع الأكراد وإقحامهم في المنطقة كي يسيطروا عليها ميدانياً كي يتمّ الإعلان عن أنّ البيت الأبيض وحلفاءه تمكّنوا من السيطرة على المقرّ الأساس للدواعش.

المرحلة التالية من هذا السيناريو تتمثّل في تعزيز أركان التحالف الجديد في سوريا في الشريط الشمالي الذي يخضع لسيطرة الأكراد ليكون مركزاً للحكومة الكردية المستقبلية، لأنّ الهدف الأساس الذي يروم الأميركيون تحقيقه هو تقسيم هذا البلد ونقطة البداية ستكون في المنطقة الشمالية كما هو واضح.
يرى بعض المراقبين أنّ اللعبة الأميركية في الشمال السوري سوف لا تحقّق النتائج المرجوّة منها لأسباب عديدة، ولا سيّما لو أخذنا بعين الاعتبار الاجتماع الذي عقد مؤخراً في فيينا بين المعارضة والقوى الدولية النافذة في سوريا والنتائج التي تمخّضت عن التحوّلات الميدانية؛ ويمكن تلخيص هذه الأسباب بما يلي:

1 ) تأسيس تنظيمين معارضين جديدين هما (جيش سوريا الجديد) والحركة الديمقراطية لا يعدّ مقبولاً من قبل سائر الحركات المعارضة التي لا تخضع لسيطرة واشنطن، إذ كيف يمكن إقناع الحركات المتشدّدة والمدجّجة بالسلاح في أن تنضوي ضمن هذين التنظيمين والتنازل عن مصالحها في سوريا، وعلى رأس هذه الحركات "جبهة النصرة” و”جيش الفتح” و”جيش الإسلام” و”أحرار الشام” و”الجيش الحر”ّ.

2 ) إنّ تأسيس أيّة حركة كردية مستقلة في شمال سوريا يتعارض مع الأمن الوطني في كلّ من العراق وتركيا وإيران، لذا فليس من المحتمل أن يوافق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تأسيس حكومة كردية في سوريا، بل إنّه يعارض منح أيّة قدرة عسكرية أو سياسية للأكراد في أيّ بلدٍ كان؛ وبالتالي فإنّ تأسيس حكومة كردية مستقلّة في سوريا يعدّ خطّاً أحمر بالنسبة إلى أنقرة، حتّى وإن أدّت هذه المعارضة إلى فرض قيود على تركيا من قبل الاتحاد الأوروبي وحرمانها من بعض المزايا.

3 ) كلٌّ من إيران والعراق وروسيا وسوريا عارض النشاطات الإرهابية في سوريا منذ بداية الأزمة في هذا البلد، لذلك بدرت منها مواقف جادّة مناهضة للإرهاب وتصدّت للمجاميع المسلّحة المسيّرة من الخارج ولم تسمح لها بأن تحلّ محلّ جبهة المقاومة في هذا البلد، لذا يمكن القول إنّه من المحال تطبيق أيّ سيناريو في سوريا يتضمّن تنحية الرئيس الشرعي بشار الأسد قسرياً، وإن حدث ذلك فالأزمة سوف تتفاقم بشكلٍ كبيرٍ.

بعد الأحداث التي عصفت بالساحتين الفرنسية واللبنانية وفي ظلّ المقرّرات التي تمّت المصادقة عليها بشكل مبدئي في اجتماع فيينا، فهل القوى الدولية النافذة في سوريا ستوافق على السيناريو الأميركي وتنخرط فيه؟

وهل روسيا ستنهي أحلام واشنطن التي تروم تحقيقها اعتماداً على الإرهابيين الذين درّبتهم وزوّدتهم بالسلاح عن طريق شنّ غاراتٍ مدمّرةٍ تقضي على مراكز قياداتهم؟

* باحث في شؤون الشرق الأوسط
رایکم
آخرالاخبار