شبكة تابناك الاخبارية: الشيخ «عبدالعظيم المهتدي البحراني» قدم هذه المقالة إلى مؤتمر (الفقه الإسلامي وتحديات العصر) المنعقد في إسطنبول (تركيا) تحت رعاية الهيئة العالمية للفقه الإسلامي) وأرسل نسخه من مقالته لـ"شفقنا":
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وأهل بيته الطاهرين، وعلى صحبه الصالحين.
المقدّمة: إذ نبارك لأمين عام الهيئة العالمية للفقه الإسلامي والسادة المشاركين الأفاضل في هذا المؤتمر الكريم سرور المسلمين بذكرى مولد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) (17/ربيع الأول/ 1430هـ) ومولد حفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) نقدّم بحثنا المتواضع قائلين: الديمقراطية وحقوق الإنسان منشور يُرفَع في كلّ بلد ولدى كلّ أزمة وعند كلّ صاحب حق وصاحب زور أيضاً!
فكما يتطلّع إليها (المظلومون) في العالم نافذةً على نجاتهم من الظلم، كذلك يركبها (الظالمون) طريقاً لسلب الآخرين حقوقهم، وبين هؤلاء وأولئك يطفح (المزايدون) فيها ليغروا بها الشعوب ويستغلّوهم لمقاصدهم الخاصة. وهناك (القليلون) ممن يحملون المفهوم الصحيح للحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان ويكافحون من أجلها بأسباب إيمانية سلميّة.. متصلةً بها إتصال الوسيلة المتجانسة مع الغاية المتعالية.
بين هؤلاء الأربعة.. هل أصبحتْ (الحريات وحقوق الإنسان) القميص الذي يتجاذبه الجميع حتى يتمزّق كاملاً فيضيع الحق على دعاته الحقيقييّن وعلى المستحقّين من البشر؟! وما هو الحلّ لهذه المعضلة البشرية من وجهة نظر الفقه الإسلامي؟
هذا ما سنحاول المساهمة في بلورته عبر تلميحاتنا السريعة من خلال ثلاثة محاور وخاتمة بتوصيات، نقدّمها بالتوكّل على الله عزّوجل إلى مؤتمركم المبارك، والذي جاء في زمن الحاجة.. زمنٍ لابدّ لمسيرة الحريات والحقوق الانسانية من شحنات تدفعها إلى الأمام ومن أجل سعادة الإنسان. والله الموفّق وهو المستعان.
* المحور الأول: مبادئ أساسية
ألف - الحقوق الإسلامية.. قول وفعل
زخرتْ المصادر الإسلامية بالمفاهيم الإنسانية وفقه الحقوق بما لا حصر له.. فالقرآن الكريم وأحاديث النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بشكلها العام (كما في الكتب الموثقة للشيعة والسنة) وما جاء في نهج البلاغة من روائع الخطب والرسائل والكلمات للإمام علي (عليه السلام) وخاصة عهده لمالك الأشتر حول شكل النظام السياسي في الإسلام ومبادئ حقوق الإنسان.. قد اشتمل على ذلك كله...
وأما (رسالة الحقوق) التي جُمعتْ فيها أقوال الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فقد أعدّها خبراء الحقوق وفقهاء الشريعة أثرى لائحة قانونية ووثيقة تاريخية في شمولية الحقوق الإنسانية للإسلام، وقد نظّمها الإمام (عليه السلام) في القرن الأول الهجري (بين عام 65 من الهجرة إلى عام 94) حيث استُشهد في هذه السنة بسُمٍّ دُسّ إليه من المنتهكين للحريات ولحقوق الإنسان.
ومن الجدير وعيُه هو أنّ ما طرحه الإسلام في هذا الميدان لم يكن مجرّد أقوال وتنظيرات بل تحرّكتْ مع سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) وسيرة الأجلاء من الصحابة (رضي الله عنهم) لتتحوّل إلى دساتير تطبيقية رسالية، فتكون وبالبرهان العلمي التجريبي حجّة خالدة للبشرية في قابليّة مبادئ الإسلام الحقوقية على العمل بها في عصرنا، لامتلاكها المرونة وعناصر الحركة مع تطوّر الأزمنة والمنحنيات الجغرافية للبلدان والأمكنة. فلا يجوز للأمّة الإسلامية بعد ذلك أن تستجدي غيرها في هذا الحقل الإنساني إلا بمقدار الانفتاح المطلوب حضارياً (... لِتَعَارَفُوا...).
وهنا نستجلي أهمّية القرآن الكريم في مسيرة النهضة الإصلاحية للحريات ولحقوق الإنسان مما كتبه المرجع الأعلى الراحل السيّد الخوئي (قدّس سرّه) في مقدّمة كتابه (البيان في تفسير القرآن).. وهذا نصّه:
"وجدير بالمسلم الصحيح، بل بكل مفكّر من البشر أن يصرف عنايته إلى فهم القرآن، واستيضاح أسراره، واقتباس أنواره، لأنه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر، ويتكفّل بسعادتهم وإسعادهم. والقرآن مرجع اللغويّ، ودليل النحويّ، وحجّة الفقيه، ومَثَل الأديب، وضالّة الحكيم، ومرشد الواعظ، وهدف الخُلْقي، وعنه تُؤخَذ علوم الاجتماع والسياسة المدنيّة، وعليه تُؤسَّس علوم الدّين، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون، ونواميس التكوين. والقرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد، والنظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة...
إلى أن يقول (رحمه الله): على المُفسِّر أن يجري مع الآية حيث تجري، ويكشف معناها حيث تشير، ويوضّح دلالتها حيث تدل. عليه أن يكون حكيماً حين تشتمل الآية على الحكمة، وخُلْقيا حين ترشد الآية إلى الأخلاق، وفقيهاً حين تتعرّض للفقه، واجتماعياً حين تبحث في الاجتماع، وشيئاً آخر حين تنظر في أشياء أُخَر. على المفسِّر أن يوضّح الفنّ الذي يظهر في الآية، والأدب الذي يتجلّى بلفظها، عليه أن يحرّر دائرةً لمعارف القرآن إذا أراد أن يكون مفسِّراً...".
باء - كرامة الإنسان.. المصدر الأول
الإنسان بوصفه الكائن الوحيد من بين المخلوقات الذي كرّمه الله جلّ جلاله، فإنه من الطبيعي أن يشرّع الله له حقوقاً يتناسب مع كرامته.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [سورة اﻹسراء : 70]
ومن أجل ذلك فقد سخّر الله له ما في السماوات وما الأرض لينطلق في حقوقه حتى يبلغ قمم الكمالات الربّانية ويفتح قلل الخصال العظيمة.
وكان لتحقيق هذه الغاية لابدّ من تشريع أحكام فقهية بمثابة الوسائل والأطر والآليات، فبعث الله الأنبياء والرسل كي يبيّنوها للإنسان فتتمّ الحجّة عليه بشريعةٍ سماويّة وفقهٍ جامع لكلّ ما تحتاجه البشرية إلى يوم القيامة. فكان الإسلام بكتابه القرآن تبياناً لكلّ شيء وبصائر تامّات باقيات.
لهذا فإننا نتّجه إلى القول بأنّ حقوق الإنسان في الإسلام فرعٌ عن كرامة الإنسان.. فلولا هذه الكرامة لما كانت للحقوق وجود وحكمة ولا مفهوم وغاية.
فمثلاً حقّ المساواة بين الناس في الاهتمام بحقوقهم الأساسية، ويتفرّع من المساواة حقّ الحرّية وحقّ الحياة وحقّ التعليم والتقدّم العلمي وحقّ التعبير عن الرأي والعقيدة، وحقّ الأمن من الخوف والعيش بسلام، وحقّ السفر والإقامة والمسكن والمأوى، وحقّ العمل والإنتاج والتجارة، كلّ ذلك يعود إلى حقّ الكرامة، فمادام الإنسان مخلوق كريم فعلى الخالق الكريم أن يشرّع لكرامته فقهاً وأحكاماً وقوانين تحقّق له كرامته عبر هذه الحقوق التي يتساوى فيها الإنسان مع أخيه الإنسان بغضّ النظر عن لونه وجنسه ولسانه، وإلا فالحكمة من خلق الإنسان تفقد مصداقيتُها كما يفقد العدلُ مصداقيتَه هو الآخر.. وحاشا أن يكون الله كذلك فهو قد أبى إلا يكون حكيماً عادلاً حيّاً مُدركاً ولطيفاً في عباده، بل ومُلهِماً لهم حكمته وعدله ولطفه أيضاً ليتعاملوا مع بعضهم وفق هذه القيم الربّانية...
جيم - بين الكرامة والمساواة
قبل أكثر من (1430) عاماً أعلن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) مبدأ المساواة بين الناس. وأعاد التذكير به في خطبته التاريخية في حِجّة الوداع قبل رحيله من هذه الحياة في السنة الهجرية العاشرة.
عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: "يا أيّها الناسُ إنّ ربَّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ونبيَّكم واحد، ولا فضل لعربيٍّ على عجميّ، ولا لعجميٍّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى". وقال (ص) أيضاً: "الناسُ سواء كأسنانِ المُشط ".
وعليه أسّس الإمام علي (عليه السلام) وثيقته التاريخية في بيان النظام السياسي للإسلام حينما كتب في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر: "وأشْعِرْ قلبَك الرّحمة للرعيّة. ولا تكونَنّ عليهِم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلَهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين أو نظيرٌ لك في الخَلق".
ولكنّها - أعني المساواة - إذ هي أصل بقيّة الحقوق فرع لأصل الكرامة.. مع التأكيد على أنّ المساواة في المفهوم الإسلامي تختلف عمّا هو في المفهوم البشري، فإنّ هذا المفهوم البشري يقع أحياناً كثيرة على خطّ الظلم للرجل والمرأة، بينما في مفهومها الإسلامي تكون هي العدل بعينه. فمثلاً تعتمد النظرية الرأسمالية والإشتراكية مبدأ المساواة بين الجنسيْن حتى في الوظائف الثقيلة وإذا بالمرأة لا يتحمّل بدنها ونسيجها النفسي وتكوينها الصحّي فتصطدم مع رسالتها في الأمومة والعلاقة الزوجية وصحّتها وسعادتها، وهذا النوع من المساواة الظالمة سبب مباشر لذهاب كرامتها وتحويلها إلى سلعة تُباع وتُشترى لصالح شهوة الرجل باسم التحرّر عن الحجاب والتخلّص عن الفوارق بينها وبين الرجال!!
ولا أدري إنْ كانت المرأة في ظلّ التحرّر الديمقراطي قد تبوّأتْ موقع الرئاسة لجمهورية أمريكا أو أوروبا وكم نالتْ من الحقائب الوزارية في تلك البلاد المنادية لها بالمساواة؟! وكم هي النسبة بين الرجال والنساء في تلك المجتمعات من فرص المساواة؟! ولماذا المرأة في تلك الدول لم تحض على منصب قيادة الجيش؟! أليست المساواة تعني ذلك؟!
حقائق الواقع تدلّ على أنّ دعوى المساواة الغربية لم تحصد منها المرأة إلا جانب التجارة بمفاتنها لأرباح السوق وإرضاء الغرائز وراحة الرجل ولذّاته...
بينما نظّم الإسلام أحكامه الفقهية بالنسبة للرجل وللمرأة حسب الدور الذي أناط بهما في الحياة وحسب موقعهما من المسئوليات، وصان المرأة من مخطّط الإستغلال الحيواني.
فالمساواة في الفقه الإسلامي هي توزيع الواجبات والحقوق على الرجل باعتباره رجلاً وعلى المرأة باعتبارها إمرأة قد خَلَقَهما الله تعالى في اختلاف بدني وروحي يتناسب ومواقع المسئولية وما يريده الخالق الحكيم من كلّ واحد منهما في أدائه الجزء المناط إليه في الحياة.
وهكذا لمّا يدرك أنصار النظرية المادّية هذه الفلسفة الإسلامية سوف تنتفي عندها إنتقاداتهم لفقه المواريث والأسرة والنفقة والعمل والحجاب والإختلاط والقضاء والشهادات وما أشبه في الإسلام.. هذا لو كانوا محايدين ومنصفين وعلمييّن وموضوعييّن.
دال - آلية الإسلام في تطبيق الحقوق
تعبّر حقوق الإنسان في الإسلام عن فلسفته الوجودية، بحيث لا يكون وجود للإسلام في حياة الفرد والمجتمع إلا بوجود حقوقهما الكاملة.
والسؤال هنا: على مَن تقع مسئولية تحقيق ذلك في الواقع الخارجي؟ لا شك أنّ التعاون بين القادة والجمهور هو السبيل السالك إلى هذا الهدف السامي، ولكن القادة (سواءً أمراء الدولة أو علماء الشريعة) هم المسئولون قبل الناس والرعية، فلابدّ لهم -ولأجهزة الدولة خاصة- من توفير جميع المستلزمات التثقيفية المطلوبة وتسهيل الآليات الحقيقية لتطبيق الحريات الإسلامية وحقوق الإنسان والناس جميعاً.
وإذا حصل هذا الأمر فسوف لا يجد إنسان يعيش في المجتمع الإسلامي حقوقاً يشعر بها من أعماق فطرته كحاجة إنسانية إلا وقد بيّنها هذا الإسلام وأتى بها كاملاً من غير نقصان، لا فرق في ذلك بين حقوقه الفردية وحقوقه الأسرية والمجتمعية، وحقوقه ضمن العلاقة بالمؤسسات الحكومية، لأن الإسلام منظومة متكاملة نزلتْ من عند الله لسعادة الإنسان وإيصاله إلى حياة طيّبة وادعة كريمة، بل وإلى ما بعد هذه الحياة الدنيا من جنات باقية.
وهو ما يحرص عليه الإسلام لكلّ إنسان سواءً كان من طبقة القادة أو من طبقة الرعية.. أو كان مسلماً أو غير مسلم، شريطة أن يتحمّل مسئوليته بالدمج العملي بين دعامتيْن:
الدعامة 1/ ما عليه من واجبات.
الدعامة 2/ ما له من حقوق.
بحيث لو مالَ بأحدهما على الآخر فقد أخلّ بالتوازن المطلوب في تحقيق العدل الإنساني.
ومن الواضح أنّ هذا الإخلال يعني ذهاب الانسجام بين الفرد والفرد الآخر، وهو الظلم الذي يدعو إلى الصراع بين الأفراد، وهو العلّة الأساسية في النزاعات التي حينما تتعاظم تتحوّل إلى ثورات الشعوب وحروب الدول.. وبالتالي يؤدّي إلى موت الحقوق الإنسانية بموت الإنسان في ضميره وعقله وإيمانه وأخلاقه.. ذلك ما تشهده البشرية اليوم وشهدتْه على طول خطّ الإنفصام بين الدعامتيْن المذكورتيْن. فما من فرد أو شعب أو حكومة يتجه نحو الواجبات بلا حقوق أو حقوق بلا واجبات إلا فتح على نفسه باب الظلم الذي لا يغلقه شيء سوى العدل بينهما فقط.
هاء - الضمانة الإجرائية
ما أروع الكلام حينما يصف المتكلم معنى الحق والجمال والكمال، وما أحلاه لمّا تُطلَق به في قوالب الشعارات البرّاقة، كما هو السلوك الشائع في أكثر الدول والجماعات والأحزاب!!
ولكن الناس يسألون عن ضمانات الإجراء والتنفيذ.. فما هي تلك الضمانات التي يقدّمها الإسلام على هذا الصعيد؟
تبيّن مما سبق ما لفقه الحقوق الإنسانية في الدين الاسلامي الحنيف مِن تداخلٍ جذري عميق مع العقيدة، والعقيدة تشحذ الإرادة وتشحن العزيمة باستمرار. وهذا هو المائز الأساس بين الرؤية الإسلامية للحريات والحقوق وبين النظريات الغربية والشرقية التي سردها فلاسفتهم في هذا المجال قديماً وحديثاً والتي تجتمع حوافزها على نطاق الدنيا ومادّياتها الزائلة.
يشير الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) في بداية كتابه (رسالة الحقوق) إلى أنّ الله تعالى قد جعل حقوق عباده مقدّمةً على حقوقه عزّوجل. مما يفيد بأنّ حقوق الناس إنما يراعيها بكامل الرعاية كلّ مَن يخشى ربّه سبحانه، وهو الذي قرّر - كما في الفقه الإسلامي - أن لا يعفو عمّن ينتهك حقوق الناس ما لم يعفُ صاحب الحق نفسه.
وهذه من أقوى الضمانات الإجرائية لتنفيذ الحريات العامّة والحقوق الإنسانية وتنظيم العدالة الإجتماعية وترشيد مؤسسات الدولة بعيداً عن الفساد الإداري وما أشبه من أمراض العصر السياسية والأخلاقية.
إنّ هذه الضمانة هي المائزة الأساسية الأخرى بين الرؤية الإسلامية وبين النظريات البشرية التي صاغتْها القوانين الوضعية في تشريعات الدول، فإنها رغم قوانين الرقابة ورغم سلطات التغريم والعقوبة لازال وبالقانون نفسه يستطيع الفرد والدولة الالتفاف على الحريات والانفلات عن الحقوق ومصادرتها لصالح القويّ وحرمان الضعيف منها. وأمثلته كثيرة على الصُّعُد العادية، ومثاله الحيّ على الصعيد الأعلى محكمة الجنايات الدولية (لاهاي) وازدواجيتها في المعايير وتوظيفها لمصلحة الجبابرة حتى ترى قادة بني صهيون لا تطالهم هذه المحكمة الوهمية حتى بإدانةٍ على استحياء!!
بخلاف ما توفّره العقيدة الإسلامية من سلطة داخلية للفرد يخشى الله بها من أيّ تلفيق يسلكه في الاتجاه المذكور. وتقف هذه السلطة الإيمانية والتي تسمّى التقوى إلى جانب السلطة الخارجية المتمثلة بقانون العقوبات وفقه الحدود والقصاص والدّيات واستقلالية محاكم القضاء الشرعية. وبهاتيْن السلطتيْن مضافاً إلى حوافز الأجر والثواب وروادع العقاب اللتين يزرعهما الإسلام في قلب المسلم يُكمِل النظام الإسلامي ضماناته الإجرائية الثلاثة لرعاية الحرّيات والحقوق الإنسانية والطمأنينة لسلامة المسيرة العادلة.
* المحور الثاني: الغرب تحت المجهر
ألف - نشأة الديقراطية الغربية وتطوّراتها
قبل كلّ شيء.. يجدر بالذكر أنّ الإسلام حينما أعلن حقوق الإنسان ونجح في تطبيقاتها على مسرح الحياة كانت الشعوب في الغرب تعيش ويلات الجهل والتخلّف والإضطهاد وسفك الدماء كالوحوش تفترس بعضها البعض، فجاء الإسلام بشمسه الساطعة فكان هو السبّاق في مشروعه الإنساني الذي حقّقه من غير ثورة دموية أو حرب مدمّرة أو توغّل في الدماء بالإغتيالات الجبانة إلا ما كان منها دفاعاً عن هذا المشروع العادل، وهو في دفاعه أيضاً كان القمّة في رعاية هذه الحقوق والحريات، على عكس أوروبا فهي إنما أخذت منحى التحرّر وحقوق الإنسان وسقطتْ في الدماء وإلى اليوم بعد حُقَب سوداء من حكم الكنائس في القرون الوسطى (وخاصة طغيان الاقطاعيين في القرن 11-12 الميلادي)، إذ تعاظمتْ الخطوب وطغتْ المآسي في كل الشعوب، فكانت كلمة ملك فرنسا قاهرة لكل الإرادات، ومقولة " لويس " الرابع عشر معروفة: "أنا الدولة والدولة أنا".. وكان يقول ملك بريطانيا "تشارد" المستهتر بحقوق الشعب: "القانون في فمي وكثيراً ما يكون سرّاً كامناً في صدري".
يذكر المؤرخون أنّ الحاكمين في أوروبا كانوا ينظرون إلى رعاياهم نظرة مليئة بالاستخفاف والإمتهان ففرضوا عليهم نفوذهم وسلطانهم واستبدوا في شؤونهم وحاربوا كل نزعة إصلاحية في البلاد كما أحاطوا نفوسهم بهالة من التقديس والإكبار واعتبروا أنهم غير مسؤولين ولا محاسَبين عن أيّة جريمة أو أيّ ذنب يصدر منهم، حتى أعلن "غليوم الثاني" الألماني في خطابه سنة (1897م) نظرية الحق الالهي في الملكية المطلقة قائلا: "أنا المختار من السماء والذي يستمد سلطانه من الله".
وقال: "إنّ غليوم الأول قد أقام كنزاً واسع النطاق يجب علينا حفظه مقدّساً، هذا الكنز هو المُلْك المستمد من معونة الله. المُلك القائم على المسؤولية العظمى أمام الخالق دون سواه تلك المسؤولية التي لا يمكن لأي وزير أو مجلس نواب أن يرفعها عن عاتق وليّ الأمر".
وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الحكم الفردي إلى خنق الحريات واضطهاد الشعب وتكبيله بالقيود والأغلال. وكانت فرنسا أعظم دول أوروبا محنةً وأكثرها بلاءً وشقاءً، فقد ذكر المؤرّخون أنها كانت بأقصى مكان من الذلّ والهوان فليس فيها حرّية سياسية ولا مساواة اجتماعية ولا نظام عادل للضرائب، فالامتيازات قد اختُصّتْ بها بعض الهيئات العليا وحُرمتْ منها الأكثرية الساحقة.
وقد أقصتْ هذه الامتيازات الجائرة العدالة الاجتماعية ونقلتْ شطراً كبيراً من الضرائب إلى أكتاف الفقراء كما حرمتْ أبناء الطبقة الوسطى من المناصب الرفيعة في الدولة كقيادة الجيش والأسطول والقضاء والكنيسة.
وأدّتْ هذه الأوضاع إلى تأزّم فرنسا في القرن السادس عشر واضطرابها في جميع المجالات فكان الفرد يُلقى في غياهب السجون بلا ذنب وساد نظام الاقطاع في أوساطهم وعمّ الظلم والجور في جميع أنحاء البلاد.
وتفجرّتْ الأوضاع السائدة في فرنسا بالثورة العارمة في (1789م -1799م) والتي عُرفت بالثورة الفرنسية، فقابلتْها الحكومة الملكية بالنار والرصاص والمدافع، وازداد الثوار غضباً وعنفواناً حتى سقطتْ الملكية بعد مجازر فظيعة إنتهت إلى الإعلان عن منشور حقوق الإنسان.
ويرى هذا المنشور أنّ الآلام التي عاشتها الشعوب الأوروبية والشعب الفرنسي في الدرجة الأولى إنما يعود سببها الأول والأساس إلى تجاهل الحكومات الاستبدادية لحقوق الشعب من ناحية وجهل الناس بحقوقهم السياسية وغيرها من ناحية أخرى.
لقد أيقضتْ الثورة الفرنسية الشعوب الأوروبية التي راحت تعتبر نجاح الفرنسيين أغنى مكسب ظفرتْ به الإنسانية في عصورها الأخيرة.. فكانت هذه النهضة مبعثاً لفكرة الديمقراطية في الحكم. ولكنها خرجتْ عن مبادئها في السنوات الأولى لحكم نابليون عندما هاجم مصر بعد تسع سنوات من إنتصار الثورة، وكان ترافق حملته نساء ساقطات ينشرن الفسق والفواحش وثقافة الانحلال الخلقي بين المسلمين.
ونقرأ في قصة "مدام رولان" وهي إحدى النساء القياديات في الثورة الفرنسية كيف تنحرف الثورات عن مبادئها، حيث جيء بها في زعامة " روبسير" الذي نصب نفسه رمزاً للحرية ليتهمها بالخيانة والرجعية، فحكم عليها بالإعدام، وهي تُصعَد على المقصلة لتستقبل مصيرها ثمناً لمجرّد الشك في إخلاصها للثورة، هتفتْ قائلة: "أيّتها الحرّية كم من الجرائم تُرتَكَب باسمك".
أجل من واقع هذا التاريخ ظهرت فكرة الديمقراطية التي لا زالت لم يتوحّد دعاتها في تعريفٍ موحَّدٍ لها.. فبينما الأمريكان يعتبرون أنفسهم أرقى ديمقراطيات العالم كانت السوفييت السابقة المناقضة لها ترى نفسها الديمقراطية الفُضلى.. وحتى الديكتاتور الشهير موسوليني كان يصف فاشستيته بأنها "تحقيق للديمقراطية الصحيحة"! وكان زعيم النازية "جوزيف غوبلز" يقول: "بأن حكم هتلر أشرف شكل من أشكال الدولة الديمقراطية الحديثة"!
باء – حالة الديمقراطية اليوم.. والبديل الإسلامي
لن يغيب عن وعينا أن الديمقراطية الإمريكية اليوم تصنعها لوبيات القوى المالية العملاقة التي تستحوذ على وسائل الإعلام وتؤثر بها على الرأي العام وبالتالي في صنع القرار عبر اللّوبيات اليهودية. وهذه من أكبر ثغرات الديمقراطية الحديثة التي تأتي بمن تريد لا بمن هم كفاءات حقيقية.
وكذلك لا يذهب عن بالنا ما صنعتْه هذه الديمقراطية من حروب مدمّرة وإرهاب عالمي وتفريخ للفكر الإرهابي بين المسلمين تتذرّع به كلّما أرادتْ المزيد من الهيمنة وبيع الأسلحة!!
وهكذا جاءت الإحصائيات لتعلن أنّ القرن العشرين فقط شهد أكثر من (132) حرباً راحتْ ضحيّتها أكثر من (120) مليون إنسان قتلى ما عدا المشوَّهين والمعوَّقين والأيتام والثكالى.. هذه الإحصائية قبل حرب لبنان المقاومة سنة (2006م) وقبل الحرب الأخيرة على غزّة الباسلة سنة (2009م) وحروب غيرها على الأبواب تُضرَب لها طبولها النووية ستكون أشدّ فتكاً ودماراً في المنطقة لو نفّذوها.. وذلك في ظلّ أزمة الإحتباس الحراري من جهة وأزمة المياه العالمية من جهة أخرى والتي ضربت ناقوسها (وسيبحثها المنتدى العالمي للمياه المنعقد في إسطنبول 2009/3/16 بعد أيام) فشُحّ المياه سوف يكون قريباً من أخطر محاور الصراع الإسرائيلي العربي الاسلامي في الشرق الأوسط، وليس ما يجري في دارفور وتداعياته على السودان إلا فصل من فصول هذا الصراع المخيف على مادّة الحياة الأهمّ من البترول والغاز و...
كما لا نغفل عمّا خلّفتْه الديمقراطية الإمريكية في أمريكا نفسها من أزمة إقتصادية أخذتْ في تخنيق الفقراء وفيهم أطفال ونساء بلا مأوى، وبينما العاطلون الإمريكيون في تزايد أخذ (بيل غيتش) يعتلي في هذا المجتمع عرش الثراء العالمي للمرّة الثانية - حسب نشرات الأخبار لهذا اليوم (2009/3/12)!!!
ولكيلا نبخس الناس أشياءهم - وهذه مفردة من مفردات حقوق الإنسان في القرآن الكريم - ننصف هذه الديمقراطية في أعظم إمبراطورية لها بتنظيمها لمؤسسات المجتمع المدني وتوثيقها بقوانين إدارية ذات نسبة عالية من النجاح قياساً لدول العالم (الثالث) طبعاً، رغم أننا فوجئنا في هذا اليوم -وكما نقلتها وكالات الأنباء العالمية- بمحاكمة رجل الأعمال اليهودي الإمريكي (مادوف) الذي احتال عقوداً من الزمن على كلّ القوانين الإمريكية مبتلعاً أكثر من خمسين مليار دولار من أموالٍ أودعها عنده آلافُ المخدوعين باستثماراته الوهمية!!
فيا تُرى كيف استطاع هذا الثعلب الإقتصادي أن يلعب طوال هذه السنوات على البنوك والإدارات والتقنية الحسابية في دولة تفخر بمؤسساتها الرقابية وتبرز للعالم عبر أفلام الهوليود قوّتها الإستخباراتية لصيد أعداء أمريكا العظمى؟!
هل يمكن أن يتمّ هذا الإختراق عبر شخص أم كان ضمن شبكة إختلاس واحتيال وتواطئ مع كبار الثعالب الآخرين في الإدارة الإمريكية فيكون ما خفي منها أعظم؟!
إنّ هذه الأسئلة العريضة لا تُبقي للنظام الرأسمالي والديمقراطي المتأزم في داخله وجهاً يبشّر به الفقراء وشعوب العالم بحقوقهم الإنسانية وتحقيق العدالة والسعادة لهم بالخلاص من آلامهم المهلكة وهو مصدر تفاقمها؟!
أليست هذه التناقضات الطبقيّة القاتلة قد أسقطتْ مصداقية الدعوات الإنسانية والديمقراطية الإمريكية في عقر دارها.. وتلك أوروبا كذلك تعيش أزماتها المشابهة لأمريكا...
فعلى مَن وعلى ماذا يعوّل النخبويّون والعلمانيّون في عالمنا الإسلامي؟!
وهذا في الوقت الذي قد عالج الفقه الإسلامي مثل هذه الأزمات السياسية والإقتصادية قبل إقصائه عن الحياة، لمّا كان يحكم البلاد والعباد بنظام الزكاة وإحياء الأراضي الموات وقيمة المياه وحرّية التملّك وغيرها، فكانت القارّة الإفريقية - التي يموت اليوم منها الملايين جوعاً - تفيض من وارداتها الثرائية ونمائها الكبير حتى يكتب الوالي آنذاك إلى خليفة المسلمين ماذا يفعل في الفائض المالي وليس له مستحق إفريقي واحد؟!
فالبشرية وحقوق الإنسان لا تعالجها الشعارات البرّاقة، ولا تفرضها الدبّابات والبوارج الحربية، ولا تحملها صواريخ عابرة القارات، بل هي من فيض العقيدة والإيمان والقيم الإلهية وأحكام دين الله الحق، وهذا ما أتى به الإسلام المدهوس بين إقصائه من قبل المشركين وبين سوء تطبيقه من قبل المسلمين، ولو سمح الطرفان له بالبروز إلى موقع التأثير ومصنع القرار لرأوا كم هو لا زال قادراً على تحويل الحياة إلى جنّة تسودها الحريات الحقيقية وتنتعش البشرية بحقوقها العادلة.
جيم- الديمقراطية والحكم الإسلامي.. المشترك والمفترق
قد تشترك الديمقراطية مع صيغة الشورى في الحكم الإسلامي كآلية لصناعة القرار وتركيبه على الحوادث الواقعة..
أما في جوهره فنظام الشورى ينطلق من إستجابة المؤمن بالله والمقيم للصلاة حيث قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة الشورى : 38]
وهو نظام يرفض جميع أشكال الاستبداد الفردي والحزبي والحكم الوراثي، فحتى رسول الله (ص) كان مُلزَماً في هذا النظام الشورائي بالمشورة، حيث قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [سورة آل عمران : 159]
وعلى الحاكم الإسلامي في إطار الشورى أن يتخذ بطانةً صالحةً من كفاءات الأمّة يستعين بهم في إدارة الأمور ويكونوا ممن تعرفهم الأمة بالورع والأهلية وتنتخبهم بوعي وقناعة وحرّية. بينما الديمقراطية الغربية ترفع مَن ترشّحه اللّوبيات ذات التوافق المصلحي من وراء الحجب...
والديمقراطية تتصرّف في قوانينها متى ما يشاء مجلسها التشريعي.. بينما الأحكام الفقهية في الإسلام (من الحلال والحرام) ثابتة إلى يوم القيامة لن تتغير وقد حدّدها القرآن وبيّنها النبي (ص).. فالقاتل يُقتَل.. والزاني يُجلَد.. والسارق تقطع يده.. والزواج بعقدٍ تُقرأ كلماته.. والخمر حرام.. والربا حربٌ على الله.. والميسر رجسٌ من عمل الشيطان.. وهكذا...
كما وتفترق الديمقراطية عن نظام الشورى الإسلامي في أنّ الديمقراطية تقوم على أساس العلمانية بمعنى نفي الدين عن الحياة وإطلاق الحرّيات بلا ضوابط أخلاقية. والاسلام ليس كذلك، إنما هو دين دولة ودولة دين.. تركيبة ممزوجة كاملة بين القيم النبيلة كلّها.
ذلك لأنهما أساساً تفترقان في مصدر التشريع، فبينما الديمقراطية كنظام سياسي ينادي به الغرب والشرق - رغم خلافات دعاتها في تعريفها - تتجه نحو حكم الشعب على الشعب برأي الشعب -كما يقولون-، ترى الإسلام يتجه نحو حكم الله على الشعب ببيعة الشعب مع القيادة الشرعية. والفرق بين علم الله وتشريعه وبين علم الإنسان وتشريعه فرق السماء والأرض!!
وكفى دليلاً على هذه المفارقات الواسعة ما تشهده البشرية اليوم في الدول الكبرى صُنّاع الديمقراطية ومصدّريها من تناقضات على الأرض وازدواجيات في المعايير وما فعلتْ هذه الدول الديمقراطية بالشعوب من دمار وفساد وحروب انتهتْ إلى أزمة مالية عالمية خانقة وسقوط أخلاقي في الوحل حتى النخاع. ولغة الأرقام وحديث التقارير لمراكز الدراسات في تلك الدول وغيرها معروفة للجميع. في الوقت الذي حينما حكم الإسلام البشرية من قبل فقد أخرجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الحضارة رغم كلّ الملاحظات المحيطة بسلوك بعض حكّام المسلمين وقادة الجيوش الإسلامية الميدانيين. فما بالك لو كان الإسلام يُطبَّق بالصورة التي رسمها النبيّ الأكرم والأئمة من أهل بيته (عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام).
يقول فضيلة الشيخ سيّد سابق في كتابه فقه السنة (ج 2 / ص 612 – 613): "إنّ أيّ تفويت أو تنقيص لحق من حقوق الانسان يعتبر جريمة من الجرائم، وهذا نفسه هو السبب الحقيقي في منع الاسلام للحرب أيّاً كان نوعها ، لأن الحرب بجانب كونها اعتداءً على الحياة فهي تدمير لما تصلح به الحياة. وقد منع الإسلام حرب التوسّع، وبسْط النفوذ ، وسيادة القويّ ، فقال: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة القصص : 83]
وكذلك مَنَعَ حرب الانتقام والعدوان ، فقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [سورة المائدة : 2]
وكذلك قد مَنَعَ الإسلام حرب التخريب والتدمير فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [سورة البقرة: 204 - 205]
* المحور الثالث: صراع التحدّيات
تتعثّر الفعاليات الحقوقية والمطالبات بالحريات في بلاد المسلمين بمجموعة تحدّيات هي العمق في الصراع الدائر بين الحكومات المسلمة وبين الناشطين الإصلاحيين.
نتّجه في هذا المحور نحو تقسيم هذه التحدّيات إلى داخلية وخارجية.. وهما متعاضدتان من غير ميعاد ولا اتفاق لتمنعا الحريات الإسلامية من الظهور ومن أن يتنعّم المستضعفون بحقوقهم الإنسانية.
القسم الأول.. تحدّيات داخلية
ألف - التفسير والتطبيق الخاطئيْن
رغم أنّ الإسلام كان سبّاقاً زمنيّاً إلى تحرير الإنسان والشعوب وتطبيق الحقوق الإنسانية والتأسيس لحضارة لا زالت تشدّ العقول والقلوب إلى نفسها وبإعجاب كبير ومتزايد.. إلا أنّ أكثر المنادين به قد أساؤا إلى صورته التاريخية الناصعة، وذلك بسببيْن أساسييْن :
1/ تفسيرهم الخاطئ أو الناقص لروح الإسلام وتعاليمه المتماسكة.
2/ تطبيقهم الخاطئ أو الناقص لتلك التعاليم.
وهذه المفارقة بين الإسلام كتعاليم إنسانية وبين مسلمين لم يرقوا إليه فكراً وفعلاً قد أربك العلماء الصالحين وروّاد الإصلاح كلّما أرادوا الحديث عن حقوق الإنسان من وجهة نظر الإسلام أو دعوا إلى تحريك الحقوق المعطّلة في المجتمعات المسلمة.
باء - ظاهرة العنف وتكفير المسلم
في الوقت الذي تروي كتب المسلمين (شيعة وسنة) أحاديث نبويّة صحيحة بأنّ الإسلام دين سلام وأمان، ومنها - كما في صحيح مسلم - أنه استفزّ أحد المنافقين رسول الله (ص) فغضب صحابيّ وقام ليردعه بالقوّة فمَسَكَه رسول الرحمة محمد (ص) وقال له: "دَعْهُ.. لا يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه". ترى في الوقت نفسه قد ابتليتْ الأمة الإسلامية في تاريخها السابق والمعاصر بفئات دمويّة وعنفيّة وتكفيرية.
ولا ريب أن هذه الفئات قد أساءت إلى صورة الإسلام وسمعة النبي (ص) أكثر مما أساءت الرسومات الأجنبية التي تتخذ من سلوك الذبح والتفجير دليلاً لتبرير الإساءة..
وهي - أي الفئات التكفيرية والتفجيرية - تعيق الكثير من مساعي الدعوة إلى حقوق الإنسان وإعادة الحريات إلى نصابها في الأمة.
على هذا الواقع الأليم يعلّق محمد الغزالي في كتابه (بين الاعتدال والتطرّف) - الصحوة الإسلامية ، رؤية نقدية من الداخل ، ص 66 – 67 قائلاً: "والخلاف الفقهي لا يوهي بين المؤمنين أخوة ، ولا يحدث وقيعة ! وهؤلاء يجعلون من الحبّة قُبّة، ومن الخلاف الفرعي أزمة... والغريب أنّ التطرّف لا يقع في مزيد من الخدمات الاجتماعية، ولا في مزيد من مظاهر الإيثار والفضل، إنه يقع في الحرص البالغ على الأمور الخلافية كالتنطّع في مكان وضع اليديْن أو طريقة وضع الرجليْن خلال الصلاة! والمجال المستحب للغالين في دينهم ينفسخ عندما ينظرون في ذنوب الناس، إنهم يسارعون إلى الحكم بالفسق أو الكفر وكأنّ المرء عندهم مذنب حتى تثبت براءته، على عكس القاعدة الإسلامية... ومنذ أيام ثار جدل حول حكم تارك الصلاة كسلاً، فلم يذكر أحد في شأنه إلا أنه كافر، مستوجب القتل، مخلَّد في النار!، قلت: لماذا تنسون حديث أصحاب السنن في أنّ الرجل لا عهد له عند الله - بتكاسله - إنْ شاء عاقبه، وإنْ شاء عفا عنه! علينا بالتلطّف والنصح الحسن أن نقوده إلى المسجد لا إلى المشنقة، بيد أن المتطرّفين يأبون إلا القول بالقتل ، وأن هذا وحده هو الإسلام!!".
ويضيف الغزالي: "ومن هؤلاء المتطرّفين ناس لهم نيات صالحة ، ورغبة حقة في مرضاة الله ، وعيبهم - إنْ خلوا من العلل والعقد - ضحالة المعرفة وقصور الفقه ، ولو اتّسعتْ مداركهم لاستفاد الإسلام من حماسهم وتفانيهم".
جيم - الحكومات المغلقة على نفسها
وهي الأخرى من أكبر العقبات أمام التغيير نحو الأفضل، حكومات ليست فيها أُذُن صاغية لنداءات الحق ولو بقدر الإستماع للمخلصين.. مما يقوى الظنّ في قادة هذه الحكومات أنهم متواطئون مع الدول الكبرى لتمرير خطط ثابتة ومشاريع تحالفية شديدة الكتمان والسرّية!!
فالثوب الديمقراطي يفصلّونه حسب المقاسات المستوردة، وحقوق الإنسان يفسّرونها كما الإملاءات المرسلة!!
قضية الحكومات المغلقة تؤرّق الأحرار وتضع شعوبهم في دوّامة صراع مستمر في نفق مجهول لا تُرى فيه النهاية...
أجيال تعيش في التيه ولا تهتدي النجاة ما دامتْ المفاتيح لهذه الحالة المغلقة قد ألقتْها الحكومات في البحر!!
فأين الغوّاصون المَهَرة لإقناع الحكّام بما في الدين الإسلامي من حقوق للعباد وللبلاد قد أوجب الله عليهم رعايتها وهو لهم لبالمرصاد؟!
هذا التحدّي تعالجه الحكمة والتواصل والحوار والتوعية الجماهيرية والضغط السلمي باتجاه الإصلاحات التدريجية. وفي كل ذلك قد بيّن الفقه الإسلامي مسائله العملية وفق الآية المباركة: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [سورة النحل : 125]
وغيرها من آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسير في الأرض والإنفاق والقيام لله والتفكّر وما أشبه. وإنّ لكلّ ذلك أحكام فقهية مذكورة في بطون الكتب القديمة والحديثة، ولا تحتاج سوى تنضيج أدوات الإجتهاد ومتابعة الأحداث لإسقاطها على الفقه تفريعاً وتوسّعاً بالإلتزام مع أصوله الثابتة في الكتاب والسنة. ثم عرضها على خبراء صياغة القانون لتقديمها إلى الحكومات في مدوّنات بديلة ولو لإتمام الحجّة عليها!!
دال – قلّة الدراسات الفقهية قياساً لحجم الساحة وحاجتها
تُعَدّ قلّة اهتمام الفقهاء والمرجعيات الدينية بساحة الفكر السياسي المعاصر من أهمّ التحدّيات التي يتعرّض لها فقه الحقوق والحريات في عصرنا. فلو كانوا بالأمس معذورون في عدم طرْق هذه الأبواب بالشكل المطلوب وذلك بسبب سياسة الإقصاء العلماني والحكومات الأنانية فإنّ اليوم في عصر الإنفتاح قد ذهب عذرهم فوجب عليهم بذل الوسع الكافي لبيان المفاهيم الإسلامية في باب الحرّيات السياسية وحقوق الإنسان وأن يقدّموها بلغةٍ عصريةٍ تسدّ حاجة المسلمين وتملئ الفراغ.
وما أكثر الأبواب الفقهية التي تلتقي مع لوائح حقوق الإنسان في أكثرها وتفترق في أقلّها.. وهي - كما أسلفنا - تنتظر المقارنة والبلورة والصياغة والطباعة والإيصال بيد المعنيين...
ولقد وردت مفردات كثيرة من حقوق الإنسان في موسوعات الفقهاء الأجلاء تارة بالتفصيل وأخرى بالعموميات، مثل (جواهر الكلام – للشيخ محمد حسن النجفي، في 40 مجلّد) و(موسوعة الفقه – للسيد محمد الشيرازي، في 160 مجلّد) و(العروة الوثقى – للسيد محمد كاظم اليزدي، بشروح المراجع عليه). ولفقهاء أهل السنة موسوعات فقهية كثيرة تناولتْ فقه الحقوق، مثل (المبسوط – للسرخسي، في 30 مجلّد) و(الموسوعة الفقهية – إصدار وزارة الأوقاف الكويتية، في 45 مجلد، وهي وفق المذاهب السنّية كلها). ما عدا المجلات الفقهية الدراساتية التخصّصية للفريقيْن...
ولكنّ المسلمين في صحوتهم الجديدة وابتلائهم بمستحدثات المسائل الشرعية - وخاصة من يعيشون في الغرب أو مَن يتأثرون بهم - ينتظرون من فقهائهم المراجع المزيد من المتابعة لتطوّرات هذه الساحة وتقدُّم الفكر الحقوقي، والمزيد من إستخراج أحكام الشريعة في ثوب شموليّ جديد يحاكي مفاهيم العصرنة، دون الإذعان إلى نداءات الجمود التي قد يحرّكها المتضرّرون من النهضة الإسلامية المعاصرة.
ولقد أعجبني في هذا المجال مختارات الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه القيّم (فقه الحضارة) حيث قال في مقدّمته:
"في تراثنا الحضاري صفحات مشرقة تواكب مسيرة التطوّر الإنساني ، وتنطلق مع التقدّم البشري في مجالاته كافة. وكان لفتح باب الاجتهاد عند الإمامية أثره الفاعل في تحرير قضايا الإنسان المعاصر من ربقة الجمود والتقوقع الفكري ، فسُيِّر بين يديْه جملة ما يحتاج إليه من التشريع الذي يلبّي حاجاته الآنية والمستقبلية ، وقد سجّل بذلك سبقاً علمياً متحضراً ، وأحرز نصراً أكاديمياً متطوّراً. وكان للنداءات الملحّة التي أطلقها جيل من المثقفين ، وطائفة من الطبقة المتنوّرة الواعية ، وهي تدعو إلى إغناء المكتبة العربية بجمهرة من الفقه الحضاري وإثراء الحياة المعاصرة بكوكبة من فقه الحضارة ما اتّسعتْ له هذه الصفحات من الإثراء والإغناء استجابةً لتلك الدعوات الخيّرة التي انطلقتْ بداعي الغيرة على الدين باعتباره نظاماً وهدايةً وتشريعاً تتحقق من مجموعها سعادة البشر ، لا سيّما والشباب يتعايشون في ظلّ المتغيّرات الحديثة روحاً ومضموناً ، ولابد لهم من شعاع هاد يلتمسون في ضوئه معالم الحق والسداد بعيدةً عن المناخ المتطرّف ، وقريبةً من الروح الموضوعي ، وهم ما بين مغترب عن موطنه ، أو مهاجر عن بلده ، أو متطلّع إلى مفاهيم دينه وهو يخوض غمار الحياة في أوروبا والبلدان الأجنبية . لكلّ ما تقدّم يسرّني أن أتقدّم لشبابنا المتحفّز الرائد فقه الحضارة في ضوء فتاوى سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوريف). وكانت طبيعة هذا الموضوع أن أنتظم في ستة فصول مختارة:
الفصل الأول: وكان بعنوان: الطبّ الحديث وظواهر الاكتشاف المختبري ، وقد اشتمل على تسعة مباحث هي:
1 - أحكام التشريح في منظور عصري .
2 - الترقيع بالأعضاء والواقع الطبي .
3 - التلقيح الصناعي والتخصيب .
4 - أطفال الأنابيب وعملية الاستنساخ .
5 - تحديد النسل وموانع الحمل .
6 - مرض الإيدز أو فقدان المناعة المكتسبة .
7 - أخطار التدخين .. ونوادر علمائنا الأعلام .
8 - وباء المخدرات وأضرار الخمور .
9 - فتاوى فقهية ذات أبعاد طبية .
وكان الفصل الثاني بعنوان: الاقتصاد الوطني والشؤون المالية ، وقد اشتمل على خمسة بحوث رئيسية ، كان مبحثها الأول ، وهو بعنوان أعمال المصارف والبنوك ثرياً بخمسة عشر موضوعاً:
1 - الاقتراض - الإيداع .
2 - الاعتمادات .
3 - خزن البضائع .
4 - بيع البضائع عند تخلّف أصحابها عن تسلّمها.
5 - الكفالة عند البنوك .
6 - بيع السهام .
7 - بيع السندات .
8 - الحوالات الداخلية والخارجية .
9 - جوائز البنك .
10 - بيع العملات الأجنبية وشراؤها .
11 - السحب على المكشوف .
12 - خصم الكمبيالات .
13 - العمل لدى البنوك .
14 - فتاوى مصرفية .
ثانياً: أوراق اليانصيب .
ثالثاً: عقد التأمين .
رابعاً: إخلاء المحلات التجارية .
خامساً: فتاوى حضارية بأموال الأوروبيين .
وكان الفصل الثالث بعنوان: تخطيط المدن واستصلاح الأراضي ، وقد اشتمل على خمسة مباحث مهمة:
1 - الشوارع العامة في مظاهرها المتعددة .
2 - الطرق المشتركة ، في الإعمار والاستثمار.
3 - الشوارع المفتوحة من قبل الدولة .
4 - المياه والأنهار والآبار والعيون .
5 - إحياء الأرض الموات .
وكان الفصل الرابع بعنوان: السفر إلى أوروبا والخطوط الجوية والقبلة في نيويورك ، وقد انتظم في أربعة مباحث متأصلة:
1 - السفر إلى البلدان الأوروبية والأجنبية .
2 - حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري .
3 - القبلة في نيويورك .
4 - متفرّقات في أحكام السفر .
وكان الفصل الخامس بعنوان: شؤون الأطعمة واللحوم والأغذية والمعلّبات في الدول الأجنبية ، وقد انتظم في أربعة بحوث رئيسية:
1 - التذكية واللحوم وطعام غير المسلمين .
2 - ريادة المطاعم المشبوهة والعمل فيها .
3 - المعلّبات والمنتجات في الدول الأوروبية .
4 - فتاوى حضارية في الأغذية والأشربة .
وكان الفصل السادس بعنوان: مظاهر الحياة العامة والعلاقات المحرَّمة والجائزة ، وقد اشتمل على خمسة مباحث غنية بمسائل الابتلاء لدى الشباب والنساء في مناخ أوروبا:
1 - علاقة المسلم بسواه من غير المسلمين .
2 - الاختلاط المزدوج في المدارس والمسابح والحفلات.
3 - الإحساس الجنسي ودرجات التلذذ الشهوي.
4 - ما لا يجوز للمرأة وما يجوز .
5 - مشاهد المجون والرقص والموسيقى والغناء والقمار.
وكانت مصادر هذا البحث تعتمد مؤلفات السيد دام ظله: منهاج الصالحين بأجزائه الثلاثة ، والمسائل المنتخبة ، وفقه المغتربين ، والمستحدثات من المسائل الشرعية ، يضاف إليها آراء سماحة السيد التي تلقاها المؤلف ، وجملة من الفتاوى الخطية المصوّرة في حوزة المؤلف . ولا أدعي لهذا الكتاب الشمول والكمال ، فالشمولية قد لا تُستطاع ، والكمال لله وحده ، ولكنه إسهام في تأصيل الفكر الحضاري للفقه الإمامي ، واستجابة لدعوات الطبقة المثقفة في الاستزادة من المعارف الإنسانية والتشريعية بوقت واحد .
أقول: إن هذه المحاولة المباركة من الدكتور محمد حسين الصغير (حفظه الله) وغيرها من محاولات فقهية تحديثية حسب قرائتي لأمثال المرجع الديني السيّد محمد تقي المدرّسي والمرجع الديني السيّد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّهما) تكشف عن الهمم الرفيعة لدى المرجعيات الشيعية وإبداعاتها كلّما تزول عنها السياسات القمعية للأنظمة الجائرة. ورغم هذه النجاحات نقول إنّ الطريق بعيد وتفتقر من الدراسات العلمية المزيد المزيد وبالأخص في جانب النظام السياسي والخطط الاقتصادية ومسائل حقوق الإنسان...
ولا ننسى الإشادة هنا بالمراجع السابقين الذين ولجوا أبواب الحداثة بروح الأصالة، من أمثال الشهيد السعيد السيّد محمد باقر الصدر في كتابه القيّم (إقتصادنا) والإمام الخميني في تجربته التطبيقية لنظام الفقه الإسلامي، والمرجع الموسوعي الراحل السيّد محمد الشيرازي في كتبه (فقه الحقوق) (فقه القانون) (فقه الإدارة) (فقه المرور) (فقه العولمة) (فقه السياسة) (فقه الإقتصاد) (فقه البيئة) (فقه السّلم والسلام) و...
ورغم هذا العطاء فإنّ الحاجة كما قلنا لازالت كبيرة لمواصلة الأبحاث وتلقيح الأفكار للمضيّ بالتجربة الفقهية الحديثة على طريق التكاملية حتى تؤتي ثمارها على شتى الأصعدة..
القسم الثاني: تحدّيات خارجية
ألف - تدخّل الدول الاستعمارية الكبرى
يقول الفيلسوف جان جاك روسو: " يولد الإنسان حرّاً غير أننا أينما تبعنا خطاه وجدناه مُصفَّداً في الأغلال".
فيا تُرى مَن وراء تصفيد الشعوب بأغلال غير الدول القويّة التي تقول: خذوا هذه التي أنا أسمّيها الديمقراطية وإلا فأساطيلنا وطائراتنا ودباباتنا وجيوشنا سوف تعلّمكم معنى الديمقراطية حتى وأنتم تحت وابل من الصواريخ وركام من الأنقاض!!
غريب جدّاً هذا المنطق الغربي الذي تقوده اليوم الولايات المتحدة الإمريكية ودولة إسرائيل المدلّلة.
فهل يمكن القبول بأنّ العالم يعيش حرّية الاختيار وتقرير المصير في ظلّ نظام دولي قاهر كهذا.. يلعب حسب ما يشتهيه الكبار وكبار الكبار!!
إنّ لغة الواقع وما يجري على بلاد المسلمين اليوم من مآسي التبعية لإملاءات الأقوياء العالميين يدين مفهوم الديمقراطية ويعرّي حقيقة دعواتهم لحقوق الإنسان..
قولهم شيء وفعلهم شيء آخر.. وحتى الحيوانات أصبحت في بلادهم أكثر حقوقاً من شعوبنا ومن بعض مواطنيهم هناك.
إذن فنظرتهم الدونية للمسلمين ومحورية مصالحهم الإقتصادية من ثروات البلاد الإسلامية تجعلهم واحداً من أكبر التحدّيات أمام أيّ تغيير حقيقي في بلاد المسلمين وفق معطيات الفقه الإسلامي المتحرّك.
باء - المنظمات الحقوقية المخترقة
نعتقد أن أكثر المنظمات العالمية التي تدّعي دفاعها عن الديمقراطيات وحقوق الإنسان تخدم مصالح الدول الغربية الكبرى التي تموّلها من الأبواب الخلفية لتعبّد لها الطريق إلى فرض قيودها على الشعوب وإملاءاتها على الدول المناهضة للإستعمار!!
أليست هذه الدول المستكبرة قد اتخذت حقوق الإنسان سلاحاً ضدّ كلّ دولة مسلمة أو دولة متحرّرة من أجل إخضاعها في مرئياتها الخاصة وتكبيلها فيما تُسمّى بالنظام الدولي؟!
في تحليلنا.. إن أغلب هذه المنظمات (الإنسانية المخترقة!) يراد منها تلميع وجه تلك الدول لدى الشعوب كي تمتص نقمتها على سياسات بلدانها تجاه المحرومين وانتفاضاتهم.. ومن المؤسف أن يقع في فخّها الكثير من الأحرار والمناضلين، يصرفون جهودهم معها وهم غافلون أنها مصيدة للخروج من أزمة ثم الدخول بهم إلى أزمة أخرى، يدورون في حلقةٍ مُفرَغة لا تخدم في النهاية سوى مصالح الدول الكبرى الداعمة لهذه الواجهات الإنسانية المزيّفة.
جيم - جسور التبشير المشبوه
إنّ استغلال الدول الاستعمارية للديانة المسيحية المحرَّفة عبر قوافل المبشّرين وإظهارهم بمظهر الرحمة والمدافعين عن الإنسانية تشكّل تحدّياً آخر.. فهم يسوّقون بين الشعوب المسحوقة نظرية الخلاص عبر التأييد لأنظمتهم وبأنّ الغربييّن هم أوّل مَن اهتمّوا بحقوق الإنسان وحرّياته وأنّ دولهم هي البارقة في الإنقاذ!!
هكذا أصبح التبشير المسيحي في أغلب مراحلها التاريخية جسراً إلى فرض أجندة الدول الكبرى بعد جسور صنعها المبشّرون لدولهم عبر معلومات إستخباراتية للغرض نفسه.
وكذلك الأمر بالنسبة لبعض منظماتهم الخيرية التي تدخل إلى البلدان الفقيرة والمتأزمة لتقديم المعونات من ناحية وفتح قنوات النفوذ لدولهم الأجنبية من ناحية أخرى.
الخاتمة: (تلخيص البحث وتوصيات في نقاط)
* قرأنا معكم في هذه الصفحات :
1/ أنّ الإسلام رائد بناء المجتمع الحُرّ المؤطّر بأرقى الضوابط العقائدية والأخلاقية الشاملة، وبذلك يؤسس هذا الدين العظيم لحقوق الإنسان قيماً ومبادئ قادرة على تنمية المفردات الإنسانية كلّها وعلى طول خط الزمن وخط الحياة.
2/ أنّ الطريق إلى أسلمة الوسائل الموصلة لمقاصد الشريعة مفتوح أمام العاملين بشرط الإخلاص والحكمة والأخلاقيات السّلمية، فما للإسلام من ضمانات هو الأقوى لمستقبل الحريات والحقوق.
3/ بعد تأزّم التجربة الغربية في وحل التناقضات واحتضار الديمقراطية الإمريكية في الشرق الأوسط، فقد آن الأوان للوسطية الإسلامية أن تنشر -وبقوّة المنطق والأخلاق- بديلها المنقذ للعالم تمهيداً لعصر الظهور المهدوي القادم والوعد الإلهي الحاسم.
4/ التحدّيات كثيرة، ومهمّة تذليلها صعبةٌ للغاية، ولكنّها تزول الصعاب بإرادة المصلحين المستمدّة من قوّة ربّ العالمين. فمسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة.. وقد وفّق الله المؤمنين حتى اليوم إلى خطوات كبيرة ومثمرة قياساً لعمق المأساة وجذور التخلّف وعظمة المسؤولية.
* توصيات هامّة : حتى لا يشملنا قول الله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُون) نقترح تفعيل هذا المؤتمر وتثمير جهود المشاركين فيه عبر التأكيد العملي على ما يلي :
1- إحياء ثقافة الحرّية وفقه الحقوق بين المسلمين، فإنّ الوعي العام لدى الجمهور بأهمية الحرية ومعناها في الاسلام وحدودها وآثارها على سعادة الفرد والأسرة والمجتمع ضمانةٌ لقوّة الدولة واستقرار الحياة السياسية للبلدان، وتحصينٌ لها في وجه الأطماع الأجنبية وأيّ عدوان على بلاد المسلمين.
2- بيان مسائل الفقه الإسلامي في مقولات حقوقية على نمط البحث المقارن.. فذلك مما يقوّي فهم المسلم لحقوقه الإسلامية وبلغةٍ عصرية.
3- ترجمة أبحاث هذا المؤتمر ولاسيّما الخلاصات والتوصيات وبيانها الختامي إلى لغات أجنبية حيّة ونشرها في العالم وإيصالها إلى الجامعات العالمية في أمريكا والدول الأوروبية وغيرها، وإلى المنظمات الحقوقية والهيئات الإنسانية والأمم المتحدة.
4- إرسال التوصيات إلى حكّام المسلمين وحكوماتهم، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
5- رفع التوصيات إلى المعاهد الدينية (لدى أهل السنة) والحوزات العلمية (لدى الشيعة) لوصل المحافل العلمائية والمجاميع الفقهية في العالم الإسلامي بحصائل الفكر الحقوقي والدعوات التطويرية الأصيلة من جانب، ومن جانب آخر حثّ الفقهاء على تحويل الفقه التراكمي إلى فقهٍ يواكب العصر ويعالج تحدّياته ويعيد للإسلام حياته وحيويته وللمسلمين نضارتهم وحضارتهم.
هذا والحمد لله.. ولكم جزيل الشكر.. ودمتم موفقين لكلّ خير...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث:
1/ القرآن الكريم
2/ نهج الفصاحة - أحاديث الرسول (ص)
3/ نهج البلاغة - الإمام علي (ع)
4/ رسالة الحقوق - الإمام زين العابدين (ع)
5/ البيان في تفسير القرآن - المرجع الخوئي
6/ فقه الحضارة- د. محمد حسين الصغير/ فتاوى المرجع السيستاني
7/ نظام الحكم في الإسلام - المرجع الشيرازي
8/ النظام السياسي في الإسلام - باقر شريف القرشي
9/ الدستور البريطاني - تأليف ايرون الكسندر ترجمة محمد بدران
10/ تأريخ أوروبا في العصر الحديث تأليف ه. ا . ل . فشر
11/ الديمقراطية.. ما لها وما عليها. تأليف خليل زامل الجليحاوي
12/ المسلمون بين العلمانية وحقوق الانسان الوضعية. د. عدنان علي رضا النخوي
13/ النظم السياسية - د. عبدالغني بسيوني
14/ بين الاعتدال والتطرّف - محمد الغزالي
15/ فقه السنة - سيد سابق
16/ صحيح مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السيرة الذاتية للباحث:
* وُلِد في سنة (1960م) بمملكة البحرين.
* درس في حوزة النجف الأشرف العلمية من سنة (1974م) إلى (1979م). واصل دروسه في حوزة قم المقدسة سنة (1980م) وفي طهران.
* عاش حركةً تبليغيةً دؤوبةً على مستوى أوروبا وإفريقيا وبعض الدول العربية.. مؤسّساً فيها لعدّة مشاريع إسلامية.
* دخل الدنمارك عام (1988م) وأقام فيها حتى عام (1993م) بصفته لاجئاً سياسياً ثم انتقل بعدها إلى حوزة مشهد المقدّسة ثم حوزة قم المقدّسة قرابة عشرة أعوام قضاها بين الدراسة والتأليف.
* عاد إلى وطنه البحرين في سنة (2001م) مع الإنفراجات السياسية التي ساهم فيها عبر صياغة المصالحة بين السلطة والمعارضة، وذلك بطلبٍ من المرحوم العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
* قرابة عشرين مرجعاً من مراجع الدين أولوه ثقتهم بمنحه الوكالات الشرعية وإجازة الروايات.
* هو الآن في البحرين أمين عام جمعية أهل البيت "عليهم السلام"، وإمام مسجد الرسول الأعظم (ص)، ورئيس حوزة خاتم الأنبياء "صلى الله عليه وآله وسلم" العلمية. وله مكتبة عامّة للمطالعة.
* طُبعتْ له مؤلفات تجاوزت التسعين كتاباً وكتيّباً حتى الآن.. وقد تُرجم بعضها إلى لغات أجنبية، ومئات المقالات والمقابلات الصحفية، ولقاءات ومحاضرات على الفضائيات الإسلامية وقناة مملكة البحرين الفضائية.
* بعد مشاورات مع المرجعية الدينية وكبار العلماء وافق على تعيينه من قبل ملك البحرين عضواً في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.. وحاز على الوسام الوطني (الدرجة الأولى) من الملك، إشادةً بعطائه الثقافي ودعواته الوحدوية والحوارية. ثم قدّم إستقالته بعد ثلاث سنوات من العضوية معترضاً على طريقة إدارة البلاد وقضية التجنيس الطائفي والصمت الرسمي على ظاهرة تكفير المسلمين الشيعة في البحرين...
النهاية