في مثل هذا اليوم الـ ۲۴ من شهر ذي الحجة الحرام باهل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، نصارى نجران و قد اكتسى بعباءته ، و أدخل معه تحت الكساء عليّاً و فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) و قال : «اللهمّ انّه قد كان لكلّ نبيّ من الانبياء أهل بيت هم أخصّ الخلق اليه ، اللهمّ وهؤلاءِ أهل بيتي فأذهِب عنهم الرِّجس وَطهّرهم تطهيراً » فهبط جبرئيل بآية التّطهير في شأنهم ، ثمّ خرج النّبيّ بهم للمباهلة ، فلمّا بصر بهم النّصارى ورأوا منهم الصّدق وشاهدوا امارات العذاب ، لم يجرؤا على المباهلة ، بل طلبوا المصالحة ، و قبلوا الجزية عليهم .
فی مثل ذلک الیوم المبارک ، کتب رسول الله (صلى الله علیه وآله) ، کتاباً إلى أساقفة نجران یدعوهم إلى الإسلام، جاء فیه: «أمّا بعد، فإنّی أدعوکم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، أدعوکم إلى ولایة الله من ولایة العباد ، فإن أبیتُم فقد أذنتم بحربٍ ، والسلام» . فلمّا قرأ الأسقف الکتاب ذُعِر ذُعراً شدیداً ، فبعث إلى رجلٍ من أهل نجران یُقال له : شَرحبیل بن وداعة ـ کان ذا لب ورأی بنجران ـ فدفع إلیه کتاب رسول الله(صلى الله علیه وآله) فقرأه ، فقال له الأسقف : ما رأیک ؟ فقال شرحبیل : قد علمت ما وعد الله إبراهیم فی ذرّیة إسماعیل من النبوّة ، فما یُؤمِنُک أن یکون هذا الرجل، ولیس لی فی النبوّة رأی ، لو کان أمر من أُمور الدنیا أشرت علیک فیه وجهدت لک . فبعث الأسقف إلى واحدٍ بعد واحد من أهل نجران فکلّمهم ، فأجابوا مثلما أجاب شرحبیل ، فاجتمع رأیهم على أن یبعثوا شرحبیل وعبد الله ابنه وحبّار بن قنص ، فیأتوهم بخبر رسول الله(صلى الله علیه وآله) . فانطلق الوفد حتّى أتوا رسول الله(صلى الله علیه وآله) ، فسألهم وسألوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتّى قالوا : ما تقول فی عیسى بن مریم؟ فقال رسول الله(صلى الله علیه وآله): «إنّهُ عَبدُ الله». فنزلت آیة المباهلة الکریمة حاملة إجابة وافیة قاطعة لأعذار مُؤلّهی المسیح ومُتبنّیه ، وهی بنفس الوقت دعوة صارخة لمباهلة المصرّین على ادعائهم فیما یخصّ عیسى(علیه السلام) : قال الله تعالى : "فَمَنْ حَآجّکَ فِیهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءکُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءکُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَکُمْ ثمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْکَاذِبِینَ" (آل عمران: 61 ) . فدعاهم(صلى الله علیه وآله) إلى اجتماعٍ حاشد ، من أعزّ الملاصقین من الجانبین؛ لیبتهل الجمیع إلى الله تعالى فی دعاء قاطعٍ أن ینزل لعنته على الکاذبین .
قال أحد الشعراء : تعالوا ندع أنفسنا جمیعاً ** وأهلینا الأقارب و البنینا
فنجعل لعنة الله ابتهالاً ** على أهل العناد الکاذبینا
• معنى المباهلة
قال ابن منظور فی لسان العرب 11/72 : «ومعنى المباهلة أن یجتمع القوم إذا اختلفوا فی شیء فیقولوا: لعنة الله على الظالم منّا»...
• الخروج یوم المباهلة
و خرج رسول الله (صلى الله علیه وآله) وقد احتضن الحسین ، وأخذ بید الحسن ،
وفاطمة (علیها السلام) تمشی خلفه ، والإمام علیّ(علیه السلام) خلفها،
وهو(صلى الله علیه وآله) یقول : «إذا دَعوتُ فأمِّنوا» .
• موقف النصارى
قال أسقف نجران : یا معشر النصارى! إنّی لأرى وجوهاً لو شاء الله أن یزیل
جبلاً عن مکانه لأزاله بها ، فلا تُباهلوا فتُهلکوا ولم یبق على وجه الأرض
نصرانی إلى یوم القیامة ، فقالوا : یا أبا القاسم، رأینا أن لا نُباهلک،
وأن نقرّک على دینک ونثبت على دیننا .
قال(صلى الله علیه وآله) : «فإذا أبیتُم المباهلة فأسلِموا یکن لکم ما
للمسلمین وعلیکم ما علیهم»، فأبوا، فقال(صلى الله علیه وآله): «فإنِّی
أناجزکم»، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولکن نصالحک، فصالحنا على أن
لا تغزونا ولا تخیفنا ولا تردّنا عن دیننا، على أن نُؤدّی إلیک فی کلّ عام
ألفی حلّة، ألف فی صفر وألف فی رجب، وثلاثین درعاً عادیة من حدید . فصالحهم
على ذلک ، وقال : «والذی نفسی بیده ، إنّ الهلاک قد تَدَلّى على أهل نجران
، ولو لاعنوا لَمُسِخوا قِردة و خنازیر ، ولاضطرم علیهم الوادی ناراً،
ولاستأصل الله نجران وأهله حتّى الطیر على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على
النصارى کلُّهم حتّى یهلکوا» .
دلالة آیة المباهلة على عصمة وأفضلیة علیّ (علیه السلام) :
استدلّ علماؤنا بکلمة : «وأنفسنا» ، تبعاً لأئمّتنا (علیهم السلام) على
عصمة وأفضلیة أمیر المؤمنین (علیه السلام) ، و لعلّ أوّل مَن استدلّ بهذه
الآیة المبارکة هو نفس أمیر المؤمنین (علیه السلام) ، عندما احتجّ فی
الشورى على الحاضرین بجملة من فضائله ومناقبه ، فکان من ذلک احتجاجه بآیة
المباهلة، وکلّهم أقرّوا بما قال وصدّقوه فیما قال . و سأل المأمون
العبّاسی الإمام الرضا(علیه السلام): هل لک من دلیل من القرآن الکریم على
أفضلیة علیّ ؟ فذکر له الإمام (علیه السلام) آیة المباهلة ، واستدلّ بکلمة :
«وأنفسنا»؛ لأنّ النبیّ (صلى الله علیه وآله) عندما أُمر أن یُخرج معه
نساءه ، فأخرج فاطمة والحسن والحسین فقط، وأمر بأن یُخرج معه نفسه، ولم
یخرج إلّا علیّ (علیه السلام)، فکان علیّ نفس رسول الله، إلّا أنّ کون علیّ
نفس رسول الله بالمعنى الحقیقی غیر ممکن، فیکون المعنى المجازی هو المراد،
وهو أن یکون علیّ مساویاً لرسول الله (صلى الله علیه وآله) فی جمیع
الخصائص والمزایا إلّا النبوّة؛ لخروجها بالإجماع .
ومن خصوصیات رسول الله (صلى الله علیه وآله) العصمة ، و من مفهوم آیة
المباهلة یُستدلّ على عصمة علیّ (علیه السلام) أیضاً . ومن خصوصیاته أنّه
أولى بالمؤمنین من أنفسهم، فعلیّ أولى بالمؤمنین من أنفسهم أیضاً، وأنّه
أفضل جمیع الخلائق وأشرفهم فکذلک علیّ (علیه السلام)، وإذا ثبت أنّه (علیه
السلام) أفضل البشر، وجب أن یلیه بالأمر من بعده .
• الإمام اميرالمؤمنين علیه السلام یتصدق بالخاتم فی یوم المباهلة
و فی هذا الیوم تصدق أمیر المؤمنین علیه السلام بخاتمه للسائل أثناء
الرکوع فنزلت الآیة: (إِنَّمَا وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ
آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاَةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَهُمْ
رَاکِعُونَ) المائدة: 55 . وهذا الیوم : یومٌ عظیم و شریف و هناک جملة
اعمال یستحب الإتیان بها : الغسل، الصوم، صلاة رکعتین : وهی صلاة تشبه صلاة
یوم الغدیر فی الوقت والکیفیة ، قراءة دعاء المباهلة ، وهو یشبه دعاء
السحر فی شهر رمضان ، صلاة رکعتین بآداب الصلاة وشرائطها وبعد الصلاة
تستغفر الله سبعین مرة ثم یؤشر إلى موضع سجوده ویقول : الحمد لله رب
العالمین... الخ . کما یستحب التأسی بأمیر المؤمنین علیه السلام والتصدق
على الفقراء، وزیارته فی هذا الیوم، والأنسب قراءة زیارة الجامعة.
و بهذه المناسبة السعیدة نتقدم إلى صاحب العصر و الزمان الحجة المنتظر (ارواحنا له الفداء)
وإلى مراجعنا العظام ، و إلیکم قراءنا الکرام بأطیب
التحیات ، واجمل التمنیات وأثمن الدعاء بأن یحشرنا الله جمیعاً إلى جانب
هذه الثلة الطاهرة المعصومة ، التی حبلها نور ممدود من نور الله تبارک و
تعالى .